السبت، 23 يوليو 2016

كتاب ( دراسات في الشعر العربي واماراته ) تاليف د فالح نصيف الحجية الكيلاني القسم الثاني










الشعر في العصر العباسي الاول

وامــارته




          الشعر من  اوائل  الامور التي  تتأثر بامور الحياة  اليومية   وما يكتنفها من  تفاعلات  واحداث  وما يجري عليها  ما يغير مسارها ومنهجيتها  سلبا او ايجابا تبعا للاحداث و ذلك لان الشعراء هم اعلى  طبقة  في المجتمع البشري  في  احاسيسهم  وانفعالاتهم  النفسية  والقلبية  والفكرية  فهي عالية سامية رقيقة  لديهم  تبثق مما يشعرون به من خلال تعاملهم مع الحياة ومع الاخرين والطبيعة ومع  كل ما يدور بخلدهم  ولما  كانت الحياة في هذا العصر قد تطورت كثيرا فلا غرو ان الشعر تطور بتطورها  ايضا , فقد تطور تطورا واسعا تبعا  لتطور الحياة  ومنافذها  واتجاهاتها . والشعر يدخل من  كل المنافذ  ويخرج  باتجاهات شتى ويسمو في كل الاتجاهات  وكانه شذى  عطر عبق  في مهب نسيم عليل .  فقد اتسعت افاق واخيلة الشعراء  - والشعراء  اخصب الناس  خيالا -  أ لم يقل  الله  تعالى  فيهم في محكم كتابه  القرآن الكريم  –     (  وانهم في كل واد يهيمون  ) – فازداد  الخصب  الشعري وتفتقت  الاخيلة  واتسعت الفنون الشعرية والاغراض المختلفة   فيه في كل مدارج الحياة فظهرت اغراض  وفنون  جديدة  لم تكن  موجود ة في العصر الاموي وما قبله فنشأت هذه  تبعا  للتطور الفكري والحضاري   فكانت هذه الشاعرية  متأتية  من  التداخل  والتزاو ج  بين الثقافات  العربية  وغير العربية    و من  اجناس  اقوام المجتمع  العباسي  حيث  اختلطت  فيه  العربية بالفارسية والرومية والتركية وغيرها فكانت رافدا واسعا  للحضارة  العربية في  هذا العصر  وما  بعده .

          نعم  لقد  تطور الشعر بتطور الحياة  وبهذا  تطورت معانيه ثم تصرف الشعراء  بمعاني واساليب الشعراء  قبلهم  وحللوها  ووسعوا دائرتها   وزادوا عليها  او انقصوا  منها  تبعا  لكل ظروف  مجتمعهم    و حاجته  في  تماشي  حياتهم  الجديدة  واسلوبية  المجتمع  الانساني  فيها  فتطور التصوير  الشعري  وكثر الابداع  فيه  فوجد  التشبيه وصوره  المختلفة  وكثرت  المحسنات اللفظية ورقت المعاني  ودقت واستعملت الفاظ  جديدة  ارق واسهل  مما  كانت  عليه  في  العصور المختلفة  قبله   وقل  تم  استبدال الالفاظ  البدوية  والصحراوية بغيرها  كما استعملت بعض الكلمات غير العربية ( الاعجمية ) في الشعر  تبعا لهوى الشاعر واصله ان كان عربيا قحا  او من الموالي  واحسنوا  استعمالاتها  وصياغتها  وربط  الجمل العربية بها واصبحت تسمى – الفاظا معربة .
      
         و استعمل الشعراء المحسنات البلاغية و البديعية من طباق وجناس وتشبيه واستعارات وكثرت هذه  بشكل ملفت للنظر  في هذا العصر  وبالاجما ل  فان الشعر  في هذا  العصر تطورا  تطورا واسعا وعظيما  في  جميع  اموره  وفي  شتى المجالا ت الادبية و الشعرية  واللغوية والفنية.


          ان الشعر العربي في هذا العصر نتيجة  لتطوره الواسع وافاقه المتسعة تأثر بكل التيارات والاحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية  و تعكسه كل ما تراءى لها من امور هذا بالاضافة الى تطور الثقافة الشعرية .

         كان من اسباب  سقوط  الدولة الاموية وقيام  الدولة العباسية والذي له ابلغ الاثر في الناحية الثقافية  والادبية  ان  الامويين اتبعوا سياسة التعصب  للعنصر العربي الذي اعتبروه هو النسغ   الصاعد او الناقل الحياة الى جسم الدولة المترامية الاطراف مما أ ّلّب عليها الفئات غير العربية التي اصبحت ضمن حدود الدولة الاسلامية المحكومة من قبلهم اضافة الى ذلك ان العرب انفسهم  من اعداء الامويين من العرب  مثل العباسيين  ومنهم  العلويين خاصة  وضعوا ايديهم بأيدي  هذه الفئات غير العربية  وتحالفوا معها على اضعاف الهيمنة العربية على مرافق الدولة والعمل على اضعافها ومن ثم اسقاطها  ومن اكبر هذه التحالفات – الفارسية العربية -  حيث اخذ الفرس يشعرون بقيمة رد اعتبار سلطة  الدولة الفارسية فاتخذوا من الاسلام ذريعة لذلك واخذوا يعملون على ا ضعاف العنصر العربي  واتخذوا من العلويين والعباسيين  شمّاعات يختلفون اليها  في تعليقهم  عملهم السياسي  وشموعا  لتنير لهم  طريقهم  في ذلك  . وبدأت  تظهر لديهم  حركات  سياسية سرية في بداية امرها و تحولت  بمرور الزمن الى قوة عسكرية  تحالفت  مع  من اراد الاستحواذ على هيبـة  الـدولة  الامـوية  واسقاطـها لامـور يعرفـها الســا سـة المنصفون . وقد عرجنا على ذكرها  قليلا  لارتباطها  بالثقافة  الادبية التي شملت كل مناحي الحياة ومنها السياسة.

      كما ان للمنازعات  الحزبية  والتعصب  القبلي يد طولى في سقوط الحكم الاموي فتجمعت كل هذه الاسباب والاحوال  على  بغض العنصر العربي الاموي او ما سار عليه الاموييون اثناء  حكمهم  فتجمعت كلها بقيادة العباسيين  وبمعاونة  التيار الفارسي  وقاموا  بثورة  انطلقت شرارتها من بلاد فارس لتقضي على الامويين  وتسقط  حكمهم  ولتقوم  الدولة  العباسية الجديدة الفتية سنة \ 132 هجرية.

       قامت الدولة العباسية في العراق اثر سقوط الدولة الاموية في الشام  وكان  للفرس اثر عظيم  وكبير في  قيام الدولة الجديدة  وفي سياستها  وشؤونها  وقد ادى ذلك الى تدخل  الفرس  بسياسة الدولة وقيادتها  وقد ادى  ذلك الى  اقتباس الكثير من النظم والعادات والتقاليد الفارسية التي  حلت  محل العربية  واخذ الناس  في  تقليد  الفرس في اشياء  كثيرة  فادى ذلك الى هيمنتهم على  بعض المناطق وخاصة في بلاد فارس  والثغور الشرقية  للدولة  الاسلامية  فضعف النفوذ العربي  وقل تدخلهم في شؤون الحكم  والدولة التي اصبح الكثير من رجالاتها وقادتها من الفرس واصبح العربي الذي كان يأنف ان  يعمل  في  بعض الاعمال الحرة التي  كان  يحتقرها  يزاولها  وكان قبل ذلك لا يزاولها الا مكرها  طلبا  للعيش  والبحث عن لقمة تسد رمقه.

       و لقد  ضعف النفوذ  الفارسي  في  العراق  (  دولة  الخلافة  العباسية ) بعد ان استتب الوضع الحكومي  و نتيجة  قوة  الخلفاء  العباسيين  في الصدر الاول  للخلافة  العباسية  كالمنصور  بقتله ( ابو مسلم الخراساني )  والرشيد   بنكبة ( البرامكة )  وضربهم  الحركات  المجوسية  التي  ظهرت  في  وقتهم والقضاء  عليها – الا انها انتعشت من بعدهم  بعد الرشيد وهؤلاء  الخلفاء  كانوا  من اسباب ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية  بسب زواجهم  ازواجا فارسيات وتركيات او روميات  فكان اولادهم منهن يميلون كل الميل الى اخوالهم  وهذا ما فعله الخليفة المأمون اذ ان  امه فارسية حيث  قرّب الفرس  واعتمد عليهم  في  الحرب و القضاء على اخيه الامين ( ابن العربية ) وقتله  وتسيير   د فة  الحكم  وما  فعله المعتصم من بعده  و امه  تركية  اذ  قرب الاتراك  وسيّر دفة  الدولة  فيهم  مما  طمّع  هؤلاء  وهؤلاء  في  السيطرة  على الحكم  بحيث  اصبح  الخلفاء  العباسيون ضعافا من بعدهم  بتصرف السلاجقة  والبويهيين وجعلوا هؤلاء  الخلــفاء  كأدوات  شــطرنج  يتلاعبون  فيهم  وفي  مصائرهم  كيفما  يشاؤون وظهر التطرف التركي او النفوذ التركي بدلا عن الفارسي  وظهرت سيطرة  الاتراك على الوضع  السياسي  وربـما  الاجتـماعي  والثقافي ايضا  وساءت حالة  المواطن العربي  في  وطنه في هذا الدور حيث لم  يبق للدولة هيبة غير الخلافة  وبالاسم والرسم  فقط. وكذلك الحال في العصر البويهي .

        هذه وغيرها ادت الى تغيير في وجه الشعر العربي  حيث ارتفع صوت الشعر السياسي  ضد الامويين  ونعي  حكمهم  المنهار كما تمثلت العصبيات القبلية بين  العرب انفسهم  واستعر اوارها  بين  قيسية  ويمانية  وعدنانية  وقحطانية  كما  ظهرت حركة ( الشعوبية ) قوية  جدا. وادت هذه الاحوال الى  ظهور خلافات  واسعة  بين الهاشميين   انفسهم  وخاصة  بين العباسيين  والعلويين اذكاها الفرس  حتى وصلت الى حد المقاتلة  والعصيان والكراهية كما ظهرت  الخلافات العقائدية والدينية المذهبية  بين الطوائف والنحل المختلفة  أي  ان  الفرقة  وصلت  في  كل  شيء  نتيجة  التوسع الطامي في الدولة  الاسلامية  وكان  لكل فرقة او مذهب  او عنصر او قوم او قومية ادباء  وشعراء  ورجال  يقودونها  ويحركونها  سواء  كانت حركات سياسية او دينية او عنصرية او قبلية  او ثقافية..

    ومن  جانب اخر عنى الخلفاء العباسيون في الثقافة  عناية  كبيرة وبذلوا المال  بسخاء  لتطويرها  واغدقوه على الشعراء  والادباء  والمفكرين  وذوي الالباب والعلوم والثقافة  بحيث  تطورت كثيرا  وكانت  المنافسة  بين هؤلاء واسعة وشجعوا الترجمة من اللغات الاجنبية الى العربية فكانت رافدا جديدا يصب في بحر اللغة العربية فاتسعت الافاق وتبارى الرجال في السباق  في ميادين  العلم والثقافة والادب واللغة والدين  فكان لذلك الاثر الكبير في قيام  ثقافة عربية واسعة  في هذا العصر ما زالت لحد الان  تعد  مفخرة  من مفاخر الامة  العربية وعصورها الذهبية .

        وكانت الثقافة العربية مستقاة من مصدرين الاول الثقافة العربية التي كان عليها العرب قبل هذا العصر من الاداب الجاهلية من شعر ونثر والاسلامية التي   نبعت من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة او قلْ كان القران الكريم رافدا واسعا  لها وحافظا ( وحارسا عليها ) وكذلك الحديث الشريف وكذلك اقوال الشعراء في الجاهلية والاسلام ومن الامويين  و الادباء  والعلوم  التي اخذت بالاتساع  في زمنهم  لتصل في نهاية الدولة الاموية الى الثقافة العربية المتميزة بعد ان نمت جذورها وعلت منابتها  الا  انها ازدهرت في هذا العصر وآتت ثمارها في هذا العصر العباسي .

        اما المصدر الثاني فهي الثقافة  الاجنبية  التي  ترجمت من الامم المجاورة للعربية كالفارسية والتركية واليونانية والهندية و كانت نتيجة حتمية لانصهار هذه الاقوام في يوتقة  الامة العربية  و بالاسلام  فآتت اكلها حيث اثرت التاثير الكبير على ا خيلة الشعراء  وثقافاتهم  فتوسعت افكارهم  وازدادت علومهم  وتفتقت قرائحهم لتاتي  بقصائد ذات  معان شعرية  جديدة  كان  الاقتباس  واضحا  وجليا  فيها.   فالمتذوق  للشعر العربي في  هذا العصر لا تخفى عليه  تلك الميزة التي تطالعه من خلال النتاج  الشعري الثر وطائفة  صالحة تحمل  ذلك الطابع المشوب  بالرقة  لتؤكد هذا الاتجاه في الأسلوب الشعري

 لاحظ قول بشار بن برد متغزلا :

لم   يطل   ليلي  ولكن  لم أنم
                                      ونفى  عني  الكرى  طيفٌ  أ لم

ختم  الحب  لها  في   عنقي 
                                                    موضع  الخاتم  من  أهل  الذمم
  
رفِهي يا (عبد) عني واعلمي
                                                     إنني  يا (عبد )  من  لحم  ودم

  إن في  بردي جسمًا ناحلا
                                            لو   توكأت  عليه  لأ نهدم

          كان العرب  امة واحدة  في عاداتهم  وتقاليدهم وما آلفوه عن ابائهم واجدادهم  فلما اختلطوا  بغيرهم من الاقوام  نتيجة  توسع  رقعة  الدولة العربية الاسلامية او نتيجة الفتح  الاسلامي الواسع  حيث امتدت الخلافة العربية  الاسلامية من الصين شرقا الى المحيط  الاطلسي غربا حتى قيل ان الخليفة هارون الرشيد كان يخاطب الغيوم في السماء فيقول ( اذهبي ايتها الغيوم في السماء  فأينما تكوني يأ تيني رزقك وخيرك )  وامتزجوا  بهم نتيجة التعامل او التقارب  في العصرين الاموي والعباسي   وكان  لهذا التوسع  اثر عظيم  في   تفرق  العرب لاندساس الاقوام الاخرى وعملهم  الجاد  في  ايجاد  كيانات  لهم  ضمن الكيان العربي  و ومحولة هيمنتهم على امور الدولة  وتقريبهم  للفئات  التي  جاؤوا  منها  ومحاولة  ابعادهم  العرب عن دفة الدولة ورجالها  فأدى ذلك  الى قيام  حركات  شعوبية  معادية  للعنصر العربي  لامة  او جامعة للعناصر غير العربية  وخاصة من الفرس  والاتراك.

      لقد تاثر العرب بالفرس كثيرا فظهر هذا التأثر بمشاركتهم اعيادهم واحتفالاتهم واقتناء  العرب الجواري  والغلمان  الجميلات   وشيوع  العبث  واللهو  و الخلاعة  والمجون  والفساد  واللامبالاة  وكل  ما لم  يألفه العرب  من ذي  قبل وبث الافكار الالحادية  المستقاة من المجوسية والوثنية  فكثرت  الزندقة وظهرت الشعوبية و كل امر شائن مما حدى ببعض الخلفاء  العباسيين  في  صدر الدولة العباسية  من  مطاردة  دعاة هذه  الاعمال للحد  منها  كالخليفة  المهدي والمنصور والرشيد  وكذلك المذهبية  وطغت هذه  الامور على الحياة  العامة   حتى في دقائق امورها  مثل  المأكل  والملبس والمسكن  وفي امور الحياة  الاجتماعية  فوجد  من  تزيا  بزي  جديد - نصف عربي - وشيدت القصور وتوسع الناس  في البناء و الانشاء  وتفننوا  فيها  بحيث  شملت  كل مرافق الحياة العامة .

       فقد تنوعت اساليب الحياة وطرق الكسب والمعيشة وكان لكل ذلك اثره الكبير في تطور  تيار الشعر العربي  بحيث  ظهرت فنون شعرية جديدة لم  تكن  موجودة او معروفة  كالغزل  بالمذكر . ووصفت  الحياة ومظاهر الحضارة  الجديدة  على حالتها  التي  وصلت اليها  من قصور ورياض  ومواسم  واعياد  وقد ادى ذلك الى ارتقاء الشعر درجات على في سلم الثقافة العربية.

          لقد تطورت اساليب الشعر العربي في العصر العباسي  كثيرا جراء اطلاع  الشعراء على الثقافات الاجنبية  ونمو مداركهم  وزيادة معلوماتهم  وتطور الحياة  الحضارية في هذا العصر فقد مال الشعراء الى استخدام الاساليب السهلة المفهومة المنسوجة  من واقع الحياة المعاشة وابتعدوا عن اللفظة الصعبة او البدوية التي قل استعمالها او هجرت في الاغلب واستعملوا المحسنات  البديعية  والالفاظ  الجديدة   تبعا  لتطور الامور وحتى وصلت الحال في بعضهم  من استخدام الفاظ  اعجمية  في شعره  وقد  نشير  ان  مفهوم الأسلوب  يعني الطريقة  او السلوكية التي يتبعها الشاعر في نظم شعره  فيقال مثلا  سلكت أسلوبه وتعني طريقته  وكما  يقال كلامه  أسلوبه  الافضل .

        و كلمة الأسلوب التي  تجري على ألسنة الشعراء والادباء والنقاد  في بعض الاحيان  والمراد  بها  التراكيب اللغوية  بمعنى  انفصالها عما تدل عليه  من  معانٍ  كانت  مضمرة  في نفس الشاعر الاخر وهو إيهام يجعل من الأسلوب كلمات مرصوفة ذات حروف ومقاطع ربما  تدل على  فهم شيء  للأسلوب  حيث يهب الحياة والجمال  أو الجمود والقبح لذلك النص او هذا .

        وبالجملة  هو طريقة التعبير بالألفاظ المترتبة على معرفة ترتيب المعاني في النفس في طريقة الأداء اللفظي لما  ينسقه الفكر من معانٍ  وينظمه العقل من أفكار ازاء  الطريقة التعبيرية التي ترتبط  بالمعاني  اذ ان أول ما تحدث في هذا المعنى  وأنه ربما يعتمد في نظريته على الاعتداد بمجموع ما يذكره في مواضيع  مختلفة اذ إنه لا يتصور أن يعرف  للفظ  مواضع من غير أن  يعرف  معناه  و أنما  يتوخى الترتيب  في الألفاظ - من حيث هي ألفاظ  ترتيبًا وتنسيقا ونظمًا أي يتوخى الترتيب في المعاني  ويعمل الفكر في انتقاء  الالفاظ  ويقتفي  آثارها  بحيث  تترتب  بخدمة  المعاني  وتبقى تابعة  لها  او  لاحقة  بها  مع  العلم بمواقع المعاني في النفس او بمواقع  الألفاظ   الدالة عليها في النطق و يقوي النص  في  الأسلوب  او بمعنى اخر هو الأداء اللفظي  المطابق  للصورة  الذهنية لمفهوم الأسلوب الناجم  عن  قدرة الملكة  في اللسان العربي  بحيث  يكون  ثمرة  الاعتماد على الطبع  والالهام  والتمرس على ايجاد  الكلام  البليغ  الذي ينسج فيه التراكيب  أو القالب الذي يفرغ  فيه  ما يعتمل  في  قلبه  ونفسيته  من احاسيس  وهنا تكمن وظيفة  البلاغة والبيان  .

       فالأسلوب هو الصورة  الذهنية  للتراكيب المنظمة  كلية   باعتبار انطباقها  على تركيب  خاص  وتلك الصورة  ينتزعها  الذهن  من أعيان التراكيب وشخوصها بحيث يصيرها في الخيال كالقلب ثم ينتقي التراكيب الصحيحة على اعتبار النحو والبيان فينسقها  فيه تنسيقا  متراصا  كما يفعله  البنّاء  في قالبه  الخاص أو النساج  في المنوال  حتى  يتسع  ذلك بحصول التراكيب الاسمى  بمقصود الكلام  للحصول  على الصورة الامثل والافضل والاقرب  لملكة  اللسان  للشاعر العربي  لذا  فلكل  فن  من  الفنون  من الكلام أساليب تختص به وهذه الأساليب التي نحن نقررها  ليست من القياس  في شيء  وإنما هي  حالة  قد  ترسخ  في النفس  من  تتبع  التراكيب  في الشعر العربي  تجري  كجريانها على اللسان  كي تثبّت صوتها و صورتها المطلوبة في تقريبه  إلى فهم المتلقي بشكل اسنى وافضل  والتي  تمثل  منزلة  الروح  من الجسد  فالخيال  في الأسلوب  بوسائله  المستعارة وما يتصل بالمعنى اتصالا  وثيقًا  بطريقة مرنة من طرق التفكير حيث أنه الأداة الواضحة  للتعبير فهو طريقة التعبير اللفظي الحادثة  على  تنسيق الفكرة  والمعبرة  عن أدق خفاياها  ومدار جودتها  أو انها طريقة  التنسيق  ومدى نهوضها  بالمعاني  المعبرة عما  في  دواخلها او ما  تكتنفه  من  معان  بليغة . لاحظ  قول البحتري:

   كأ ن الرياض الحور يكسين حولها
                                 افانين   من  افواف  وشي    ملفق

 اذا الريح  هزت  نورهن تضوعت
                                       روائحه  من  فائر  مسك     مفتق

  كأن القباب البيض  والشمس  طلعة
                                         تضاحكها انصاف  بيض    مفلق

        لقد صاغ الشعراء العباسيون أساليبهم في ضوء حضارة  الدولة  وثقافتها  وطريقة  تذوقها  للفنون  . لذا جاء الأسلوب الشعري اقرب إلى الرقة في النسج  والدقة في التصوير  والدماثة  في التعبير وشاعت  في حواشيه ألوان من الزخرفة اللفظية  وضروب من الزينة والجمال واكتنفت أنغامه  حالة  من الفخامة  المؤثرة  والتي  قد  تهز  العواطف  وتحرك المشاعر  وتثير الاحساس . فالشعراء  الاكثر  تحضرا  يميلون  بطبعهم  إلى  الكياسة  والزينة  والانس  في   كل شيء  فالطبع الحضري تستهويه  الأناقة  في  كل ما حوله  ويجذبه  التأنق ويقربه اليه  وهو ما يدلل على تطور هذه الأذواق  ورقيها  وهذا سبب  قوي  في ايجاد  أسلوب  شعري  تركن اليه النفس  لتستريح عنده  في  حسن  صياغة  أ نيقة مثل مرآة صقيلة  عاكسة  على صفحتها  كل  فنون  الجمال  والتنسيق  الاسنى  والافضل  لاحظ  قول بشار في ذلك  : 

      ومخضب رخص البنا ن
                                               بكى عليَّ وما  بكيته

      يا منظرًا حسنًا رأيـ ـت
                                               بوجه   جارية  فديته

     بعثت إليَّ   تسموني  
                                           ثوب الشباب وقد طويته

        ثم  حالة جديدة ونقصد  بها السهولة في الاسلوب  ذلك الأسلوب اللين الذي يقرب إلى العامية أو يؤثرها  بعضهم  وهذه  السهولة  ربما حاولها غيرهم في أساليبهم  فيخفقون  وينكصون  عن الايتاء   بمثلها وتستعصي عليهم  وتمتمنع  عنهم  امتناعا ربما  يكون  عند  بعضهم  شديدا   قد  يسلمهم إلى اليأس وينتهي بهم إلى الحيرة  المشوبة  بكثير من الإعجاب.وهذا ما نسميه بالسهل الممتنع  وقد  نسج  فيه  عدد من  الشعراء  في هذا العصر منهم  ابو العتاهية لاحظ  قوله :

                 كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ
                                                   طُوِيتْ  عنه  الكشُوحُ

               صاحَ منه بِرَحِيلٍ
                                                  صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ

              موتُ بعضِ الناسِ في
                                                الأرْضِ على قومٍ  فُتُوحُ

              سيصير المرءُ يوماً
                                                جَسَداً  .. ما  فيه  رُوحُ

          وقد  ترك  اغلب شعراء هذا العصر كثيرا مما كان يسير عليه الشعراء في الجاهلية  كاستهلال القصيدة  بالغزل . ووصلت  الامور الى ان  تهكم  بعضهم   من هذه  الطريقة واعتبرها بالية  و سخروا  من الشعراء  الذين  حافظوا عليها.
 فهذا ابو نؤاس يقول :

قل لمن يبكي على رسم درس
                                    واقفا   ما  ضر لو كان    جلس  

      وكذلك نلاحظ  دخول الشعر بعض الالفاظ والاصطلاحات العلمية واللغوية كقول الشاعر ابو تمام في الخمرة:

         خرقاء  تلعب  بالعقول  حبابها

                                      كتلاعب   الافعال      بالاسماء

      وكذلك كثر استعمال المحسنات الكلامية البلاغية  كالبديع  والطباق والجناس والتشبيه  الفردي و التصويري والاستعارات المختلفة  وتفنن الشعراء فيها  وتزيينهم  لشعرهم  بها  كل قدر امكاناته اللغوية وقدراته البلاغية والشعرية  وقوة  شاعريته يقول البحتري:

     فلم ار مثلينا  او مثل  شاننا

                                     نعذب   ايقاظا   وننعم  هجّدا

      وكذلك  كثر استعمال الكلمات  الاعجمية  في الشعر فوجد فيه  كلمات اعجمية مثل الديباج  او الفاذولج   وخاصة  الفارسية . فالشاعر كانه يتحدث  إلى  جمهور مزيج من العرب  والعجم  ويعيش في بيئة  حضرية وهذه البيئة قد ا بتعدت بالشباب  الجدد عن صلابة حياة البادية وصعوبة  أنماطها  في  الصحراء  العربية  فلم تعد  ملكاتهم  العربية الأصيلة  وقابلياتهم  النفسية  قادرة  على  التماسك ازاء هذه التغيرات  فلانت انفسهم  واحوالهم  بالحضارة العباسية  وتأثروا  بالوا فد  الجديد الذي حبب السهولة إلى نفوسهم  وخلطها  بأذواقهم.
 لاحظ  احدهم يمدح الخليفة  الرشيد فيقول:

من يلقه من بطل مسرندي

في  زعفه  محكمة  بالسرد

تجول  بين  رأسه   والكرد

لما هوى بين غياض الآسد

وصار في كف الهِزَبْر الورد

    فالشعراء أنفسهم كانوا -غالبًا- من هذا المزيج  ولكن مواهبهم الفنية كانت تعطفهم  إلى النهج العربي الصميم  وثقافتهم العربية وآدابها و كانت تشد من ملكاتهم فيما يتصل بالتعبير  ولهذا كانت أساليبهم في يسرها  من باب السهل الممتنع  بما تضمنت من رقة آسرة وعذوبة خلابة. والشعراء الذين  ا د خلوا هذه الالفاظ  في الاغلب  اما من اصل فارسي او يميلون الى الاصول الفارسية  او لهم  اطلاع  واسع في اللغة  الفارسية  كابي نؤاس  وابن الرومي  وابن المعتزالخليفة العباسي.
 يقول ابن المعتز :

قم نصطبح فليالي الوصل مقمرة
                                        كانها  باجتماع  الشمل  اسحار

اما ترى اربعا للهو قد جمعت
                                       جنك   وعود   وقانون  ومزمار

      ثم ا دخلت الى اساليب الشعر الفاظ  فلسفية و علمية  وكل ما احاط بالشعراء  من امور ثقافية  ومعالم  وتطور وقوة  اسلوب  وجد وهزل وابتذال  في شعر هذا العصر  والشاعر  من ابدع  فيها  واجاد .
.لاحظ قول ابي العلاء المعري  :

 اذا رجع الحصيف الى  حجاه
                                      تهاون  بالشرائع   وازدراها

  فخذ منها  بما  اتاك    لب
                                     ولا يغمسك  جهل في  صراها

وهت اديانهم  من كل وجه
                                     فهل  عقل  يشد   به   عراها

        
        وكان من اثار تطور الحياة العامة في العصرالعباسي ان تطورت الحضارة والثقافة والسياسة وتطورت تبعا لها معاني الشعر واخصبت اخيلة الشعراء وازدحمت بشتى معالم الحياة وتفنن الشعراء في معاني الشعر فقد تصرف الشعراء اولا بمعاني شعر الاقدمين  قبلهم  واضفوا عليها  طابعا  من  الحسن  والطرافة ورقة  حواشي  الصور الشعرية والبلاغية فاستخدم الشعراء اقيسة منطقية وتعبيرات  لغوية تكاد تكون جديدة فيما  البسوه  لها  من  قشابة  الالوان  وتباين  الانواع  فاحسنوا التصوير  والابداع  واتسعت  اخيلتهم الى افاق  واسعة  اضافية  فجاؤوا بها  وتظهر هذه الابداعات في التشبيه وسعة الخيال الشعري وما اكتنفته من اضافات  في  محسنات اللغة  من  طباق  وجناس  و  بيان  اضافة الى  التراكيب  اللفظية  والصور  الجميلة   وتسلسل  المعاني  وتلاحمها
فمن تصرف الشعراء بمعاني الاقدمين قول الشاعر سلم الخاسر:

فانت  كالدهر  مبثوثا   حبائله
                                       والدهر لا ملجأ منه ولا هرب

ولو ملكت عنان الريح اصرفه
                                       في  كل ناحية ما فاتك الطلب

ومن تطور واستعمال الاقيسة المنطقية قول الشاعر البحتري:

دنوت   تواضعا  وعلوت  مجدا
                                            فشأناك   انحدار   وارتفاع

كذاك الشمس تبعد ان تسامى
                                          ويدنو  الضوء منها والشعاع

     ومن  حسن  الابداع  والتصوير الشعري الحسن  قول الشاعر المجدد  بشار بن برد  متغزلا:         

       

يا قوم اذنى لبعض الحي عاشقة
                                                 والأذن   تعشق  قبل العين أحيانا

فقلت احسنت انت الشمس طالعة
                                           اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا

باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ   
                                             جنيّة  زُوّجت  في النوم إنســانا

فاسمعيني صوتا مطربا هزجا
                                                   يزيد   صبا   محبا  فيك  اشجانا

يا ليتني  كنت  تفاحا  مفلجة أو كن
                                                ت من   قضب  الريحان   ريحانا


        اما علم  العروض او علم اوزان  الشعر  وكيفية  نظم  الشعر والنطق به  والفارق    بين  الشعر  والنثر  فنشأ   بنشوء  الشعر فهو روح الشعر وحركته  اذا اتفق مع  حسن  المعاني  وارتبط  بافضل الاساليب  او قل هو  النغم الشعري او الموسيقي  التي تسري  في  جسد  الشعر  العربي  ومن  خلال الاذن الموسيقية  العربية  لا نشاء  الشعر او سماعه  او تذوقه.

     فلم يكن العربي بحاجة الى تلقي موسيقى الشعر عن طريق الدراسة او  تثبيتها  باوزان  معينة  بل  كانت  الاذن  الموسيقية  لدى  العربي مرهفة صاغية  حساسة  الى  مدى  بعيد  خلال العصور الجاهلي وصدر الاسلام والاموي  فانشد العربي الشعر على  انغام  و اصوات  حركة  الابل  وسيرها  في  ليل  او  نها ر او من خلال  تهادي المرء  العربي  وهو  راكب  عليها  تتهادى  به قليلا  قليلا  او  امراة  تهتز  فوق ظهره  في  هودجها  او من  حركة  الهواء  الضارب  في  تلك  الخيام التي يسكنها  وعبثه  فيها  ا و من شدة  حركة الخيل الزاحفة  للقتال , فمن  كل هذه  ومن غيرها  وجدت  موسيقى الشعر العربية وتطورت  فبقيت الاذن العربية  عارفة  انغامها في الشعر و ترابطها او بعض  معايبها  كطيها وخبنها  وزحافاتها  او اوتادها  واعمدتها  ورويها  والقول في هذا الموضوع طويل- لاحظ مقالتي بعنوان ( النغم الايقاع )المنشورة في كتابي( في الادب والفن)  وفي مدونتي على النت  او موقعي فيه ( اسلام سيفلايزيشن ) .

       ازدحمت الحياة  وكثر اللغط وتشابكت الاصوات كلما كثرت البشرية واختلطت ببعضها  فكثرت على الاذن العربية كل هذه الاصوات  واختلفت نغماتها  بعد تطور الحياة وازدهارها وتمازج العرب  بالاعاجم  وبالحياة  العامة  والحضارة  الاممية  وتشابكها  وكثرة الاسواق  وما  فيها من لغظ وضجيج  فاصبح  من  الضروري ايجاد  امر مكتوب  لتفهمه  وتتذوقه ويعينها  او يعين الاذن في نشاته او عند  سماعه  فنشأ علم العروض في العصر العباسي الاول على يد الخليل بن احمد الفراهيدي البصري .

      درس هذا العالم العربي الجليل  كل ما قاله الشعراء ودرس الاصوات  ونغماتها  ومخارج الحروف من الحلق  والتباين بين نغمة واخرى وقيد كل ذلك . فأوجد ان الشعر العربي قديما  وحديثا لا تتعدى انغامه خمسة  عشر نغما  اسماها  بحورا  هي بحور الشعر العربي الذي انشد  فيها  الشعراء  العرب - ولا يزالون - قصائدهم واشعارهم  .

         ثم جاء  من  بعده  تلميذه  الاخفش و اجهد  نفسه في الدراسة  ليجد  بحرا  اخر ابتكره ابتكارا من خلال معرفته الواسعة في الموسيقى الشعرية اسماه (المتدارك)  تدارك  به  اخر النغمات الخليلية من  حيث  الوزن الشعري  فاصبحت  بحور الشعرالعربي ستة عشرا بحرا هي التي  ينظم بها  الشعراء  قصائدهم  واشعارهم  قديما وحديثا  .
وهذه هي اذكرها مع تفاعليها:

1- الطويل : وأصل تفاعيله:

فعولن  مفاعيلن  فعولن  مفاعل  .


2- المديد : وأصل تفاعيله:

فاعلاتن  فاعلن  فاعلاتن  فاعلن  .


3- البسيط : وأصل تفاعيله:

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن .


4- الوافر : وأصل تفاعيله:

مفاعلتن  مفاعلتن  مفاعلتن .


5- الكامل : وأصل تفاعيله:

متفاعلن  متفاعلن  متفاعلن


6- الهزج وأصل تفاعيله:

مفاعيلن   مفاعلين   مفاعلين .


7- الرجز وأصل تفاعيله:

مستفعلن  مستفعلن   مستفعلن .


8- الرمل وأصل تفاعيله:

فاعلاتن   فاعلاتن   فاعلاتن  .


9- السريع وأصل تفاعيله:

مستفعلن مستفعلن مفعولات.


10- المنسرح وأصل تفاعيله:

مستفعلن  مفعولات  مستفعلن .


11- الخفيف وأصل تفاعيله:

فاعلاتن  مستفع لن  فاعلاتن.


12 - المضارع وأصل تفاعيله:

مفاعيلن   فاع لاتن  مفاعيلن .


13- المقتضب وأصل تفاعيله:

مفعولات  مستفعلن  مستفعلن   .

14-       المجتث وأصل تفاعيله:  

     مستفع  لن  فاعلاتن  فاعلاتن


15-       المتقارب وأصل تفاعيله:

    فعولن  فعولن  فعولن فعولن   .


16-       المتدارك ( ويسمى الخبب أو المحدث )
وأصل تفاعيله:

   فاعلن  فاعلن  فاعلن   فاعلن   .

       الا ان هذه  البحور  لم تبق على حالها  فقد اجتزئت  ونهكت  ولحقها  التغيير او انشطرت فنظمت القصائد بمجزوء البحر اومشطوره  ودخلت اليها بعض الامراض العروضية مثل الخبن  والطي  والزحاف و...
لاحظ   الشاعر  صريع  الغواني   في الغزل يقول  :

يا أيها المعمود قد شفك  الصدود

فأنت   مستهام  خالفك   السهود

تبيت ساهرًا  قد  ودعك  الهجود

وفي الفؤاد  نار ليس لها  خمود

تشبها النيران  من الهوى  وقود

إذا  أقول  يومًا  قد  أطفئت تزيد

يا عاذلي  كفى   فإنني   معمود


       وقد ألمّ الشعراء العباسيون بالأوزان التي أخرجها الخليل ونظموا في  تفعيلاتها   وكان افضلها  واقربها  واطوعها  للغناء  هي  الأوزان القصيرة  كالمجتث  والقتضب  ومجزؤء الكامل  والهزج  وغيرها  من البحور المجزوءة  التي تستدعي الرشاقة والعذوبة وتلائم حياة القصور والحانات  والخمائل  وساعات الانس والطرب  وما يحبب  النغم  إلى النفسِ او أكثر استجابتها   للغناء  وطواعية  للنغم الموسيقي.
 نلاحظ  ابا  نؤاس  حيث يقول  :

حامل الهوى تعب يستخفه الطرب

 إنْ بكى  يحقُ  لـه ليسَ ما به لعبُ

  تضحكين لاهية  والمحب  ينتحبُ

كلما انقضى سببٌ منكِ عاد لي سببُ .

        وكذلك الاوزان الشعرية وبحور الشعر العربي اجتزئت وتطورت فظهرت انغام جديدة واوزان لم تكن معروفة من ذي قبل مثل الموشح والزجل اللذان  ظهرا لاؤل مرة في بلاد الاندلس ثم انتشرا في المشرق بعد ذلك  ثم  المواليا والمزدوج والمسمط والمربع والمخمس تبعا لتطور حالة المجتمع  وحاجته للنغم والغنائية .هذا بالاضافة الى التغيير في الفاظ الشعر واساليبه .  فقد افتتح الشعراء  قصائدهم  بالغرض الذي نظمت القصيدة من اجله في بعض الاحيان عازفين عما كان الشعراء يسيرون عليه من استهلال القصيدة بالغزل او البكاء على الاطلال ولو ان بعضا منهم ظل ينشد على هذه الطريقة المالوفة.

       كما  تصرف بعض الشعراء بالأوزان كما ذكرت واستحدثوا أوزاناً أخرى تنسجم مع روح العصر  مثل  أبي العتاهية  الذي كان  من أشهر الذين ابتكروا  في الأوزان الشعرية لما  يقول من الشعر .
وقد  قال ابن  قتيبة  فيه :

( وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعراً موزونا يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب )

     اما القوافي  فهي  تعتمد على الحرف الاخير من البيت الشعري  وحركته وحركة الحرف الذي قبله ويسمى الروي  فقديما كانت القصيدة نهاية  ابياتها كائنة على وتيرة واحدة  ونسق  واحد وروي واحد  مهما  طالت القصيدة او قصرت  فهي   من  بحر  واحد  وقافية  واحدة ويشكل  الحرف الاخير  قافية القصيدة  فيقال هذه قصيدة بائية اذا كانت قافيتها منتهية بحرف الباء ورائية اذا كانت قافيتها منتهية بحرف الراء وهكذا يقال ميمية اونونية ا
ولامية.......

      اما في العصرالعباسي  فقد اوجد التطور انواعا اخرى من  القصيد  منها  المربع  ومنها  المخمس  والمشطور  ومنها  ما  يسمى الموشح   والمواليا وهكذا  الا ان الجميع  كانت تحتكم الى البحور الشعرية العربية الستة عشر ولا تخرج  منها الا نادرا وحسب  مقتضات القصيدة  والضرورة الشعرية التي  اجازت  للشاعر ما لم  تجزه لغيره.

      اما فيما يخص الفنون الشعرية واغراضها  وكيفية تطورها فاقول:
مما لاشك فيه ان الأغراض الشعرية  في العصر العباسي هي امتداد للأغراض الشعرية في العصور السابقة  و لكنَّ هذا لا يعني عدم بروز موضوعات جديدة  فقد تطورت الموضوعات التقليدية في العصر العباسي في الشعر و برزت موضوعات جديدة في هذا العصر واهمها مايلي :

       واول هذه الفنون الفخر و المدح  وهي اغراض  شعرية معروفة
منذ  العصر الجاهلي  ومتداخلة  بين  الفخر والمدح  و في العصر العباسي  اشتق فن المدح  لنفسه  مضامين  جديدة  فقد  برز الإلحاح  في  هذا العصر على المعاني  الإسلامية  خاصةً  في  مدح  الخلفاء      و الوزراء على نحو لم يُعهد مِنْ  قبل.  فالخليفة  في  نظر الشعراء هو  إمام  المسلمين  و حامي  حمى الإسلام  و قد بالغ الشعراء في وصف مكانة الممدوح  الدينية لاحظ  قول أبي  نؤاس  في  مدح   الخليفة  هارون  الرشيد  وهي  حالة جديدة   لم  يسبق لها مثيل  :

  لقـد  اتقيتَ   الله  حقَّ  تُقـاتـه
                                      و جَهَدْتَ نفسك فوق جُهدِ المُتقي

 وَ أَخفْتَ  أهلَ  الشِرك  حتى  أَنَّه
                                          لَتخَافكَ  النُطف  التي  لَمْ تُخلقِ

            كمَا  قام  الشعراء  بتصوير الأحداث  و الحروب  في  قصائد  المدح  والفخر  و بذلك أصحبت  قصائد  المدح  وثائق  تاريخية  تُصوَّر  البطولات العربية.  وافضل ما قيل  بهذا المعنى قصيدة  أبي  تمام في  فتح مدينة  عمورية  :

    السيف أصدق إنباءً من الكتب
                                        في حدَّهِ الحَدُّ بينَ الجد و اللعبٍ

     
 وبروز حالات التجديد في هذا الفن مثل  مدح المدن و التعصب  لها 
  و الإفاضة  في  تعداد  محاسنها  و أشهر المدن  التي  مُدحت الكوفة  و البصرة  و بغداد  باعتبار هذه المدن  مراكز رئيسية للحياة  الفكرية
 و الاجتماعية  و الاقتصادية  في العالم  الاسلامي  او الدولة  العربية  . لاحظ  قول عمارة بن عقيل في مدح بغداد:

أعاينت في طول من الأرض أو
                                     عرض كبغداد داراً إنها جنة الأرضِ

صفا العيش في بغداد واخضر عوده
                                      وعيش سواها غير صاف ولا غض

تطول بها الأعمار إن غذاءها مريء
                                          وبعض الأرض أمرؤ من بعض


        والغزل  من  الفنون  المعروفة  منذ  القدم في  العصر  الجاهلي   و قد  تميز  فيه  عدة  اتجاهات  الاول  التغزل  بالمرأة  وفيه  اتجاهين  الغزل  الحسي  الجسدي  والثاني الغزل العفيف -  لاحظ كتابي ( الغزل في الشعرالعربي ) و قد أدَّ ت  طبيعة الحياة  في العصر العباسي إلى ازدهار فن الغزل  فبرزت فيه  أنواع  من الغزل كالغزل القصصي و هو امتداد  لما  كان  معروفًا  في  العصور السابقة  وكذلك  الغزل  الحسي  او الجسدي  و لكنه  صارأكثر مجونًا  وخلاعة  و تعابثًا.  و للزندقة والشعوبية  دور كبير في شيوع هذا  الغزل وانتشاره   و تعدد الملاهي  وذيوع  الآراء والافكار  الإباحية التي نشرها الموالي .
 نلاحظ  قول  حماد  عجرد في الغزل :

أني لأهوى (جوهراً)  ويحب قلبي قلبها

وأحب  من حبّي لها  من  ودَّها  وأحبها

وأحب  جارية  لها   تخفي  وتكتم  ذنبها

      ومن الغزل العفيف  وهو امتداد للغزل العذري الذي ساد  في العصر الاموي  قول  العباس بن الاحنف يتغزل في حبيبته :

ألم تعلمي يا فوز أني معـــــــــــــذب ُ
                                       بحبكم , والحين للمرء  يجلــــــــــــــــب ُ

وقد كنت أبكيكم بيثرب مـــــــــــــــــرة ً
                                        وكانت منى نفسي من الأرض ِ يثـــرب ُ

أُؤملكم حتى إذا ما رجعتمـــــــــــــــــــوا

                                         أتاني صدود ٌ منكم ُ وتجنــــــــــــــــــب ُ

فان ساءكم ما بي من الصبر , فارحموا
                                         وان سرّكم هذا العذاب , فعذّبــــــــــــوا

فأصبحت ُ فيما كان بيني وبينكـــــــــــم
                                    أحدّث عنكم من  لقيت ُ فيعجـــــــــــــب

       ولون جديد او اخر ظهرَ في الشعر العباسي هو الغزل بالغلمان أو الغزل بالمذكر. على ايدي نخبة من الشعراء  المجان مثل  والبة بن الحباب  وابي نؤاس  والحسين بن الضحاك وغيرهم .
 يقول والبة بن الحباب في غلام متغزلا به :

       ﻗﻠﺕ  ﻟﺴﺎﻗﻴﻨﺎ  ﻋﻠﻰ  ﺨﻠﻭﺓ
                                            ﺃﺩﻥ ﻜﺫﺍ ﺭﺃﺴﻙ ﻤﻥ ﺭﺃﺴﻲ

          ﻭﻨﻡ ﻋﻠﻰ ﻭﺠﻬﻙ ﻟﻲ ﺴﺎﻋﺔ
                                            ﺇﻨﻲ ﺍﻤﺭﺅ ﺃﻨﻜﺢ  ﺠﻼسي  


        وهناك  نوع  اخر من الغزل  هو الغزل الصوفي  وهو نوع جديد وهو وليد شعرالزهد .وقد تطرّق  الصوفيون إلى الحب  فجعلوا منه النور الذي يُستضاء  به   والسر الذي يتكئ عليه   والمشعل الذي يسير الصوفي على هداه ليؤكدوا قاعدة  اساسية هي ( أن الحب هو طريق الوصول إلى الله ) وهذا يعني أن غاية الحب القصوى هي حب الله تعالى او الاتصال  بالله   مما  يمهد الطريق للمعارف والإشراقات والفتوحات   وتلازم الأقوال والأفعال  مع  بعضها  ليكون  الحب الإلهي  قمة السلوك البشري الرفيع  كالتوبة  والإنابة  والورع والزهد ، والتوكل والرضى .. وما إلى ذلك  مما يدعو إلى التحرر من صرخة الجسد وطغيان الرغبات الحسية او الجنسية والترفع إلى المعاني الراقية والمراتب الذوقية التي تنأى في كل الأحوال عن شؤون المعرفة العقلية حيث الذوقُ  والكشفُ وميلُ القلب إلى الله وليس لسواه ، فيطيب عيشه فالحب الصوفي  فناء مطلق  يجعل من الحب والمحبوب كُلاً موحِّداً – لاحظ كتابي ( شرح ديوان الشيخ عبد القادرالكيلاني وشئ في تصوفه ) الجزء الاول   الصفحات \  93-104     .

        فالحب الروحي   المثالي المجرد عن رغبة الجسد   ونزوة الغريزة ، يجعل من  صاحبه  في  حالة  اندماج و التصاق  حقيقي بالمحبوب  فتتألق  النزعة  الوجدانية  الصافية  في  شعر الحب  الصوفي .
ولاحظ قول السهروردي :

لمعت نارهم وقد عسـعس     
                                        الليل وملّ الحادي وحار الدليل

فتأملتها وفكري من البيـن  
                                         علـيل ، ولحظ الغرام الدخيلُ

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى   
                                          وغـرامي ذاك الغرام الدخيلُ

ثم مالوا إلى الملام فقالوا :    
                                         خُلَّبٌ مـا رأيـت أم تـخييلُ

    اما في فن الوصف  فالشعراء  بطبيعة  انفسهم  ودواخلهم  وصّافون  وبسبب اتساع خيالهم و دقة ملاحظتهم فالشعر العربي زاخر بفن الوصف ابتداءا  من العصر الجاهلي وحتى الشعرالمعاصر في هذا الوقت.  اما  في  العصر العباسي  فنظرا  للتطور الحضاري  و النمو  الاقتصادي والحياة المترفة   فقد اتسع  مجال  الوصف  وظهرت عدة  اتجاهات في الوصف اهمها  الاتجاه  القديم  وقد امتدت يد الحضارة  لهذا الاتجاه   بالتهذيب  والتطوير وفقا  للتطور الزمني  والحضاري  وفيه  وصف الشعراء الرحلة في الصحراء  ووصف الناقة و الفرس و الليل و النجوم و وصف  المعارك و الحروب ومن ثم  الاتجاه  التجديدي في العصرالعباسي ويتمثل في الابتكار الجديد اذ  كان  نتاج  التطور الحضاري و النمو الاقتصادي  و شيوع الترف والاسراف , وفيه وصفوا المظاهر الحضارية  كالجسور  والحدائق والبساتين والرياض والحدائق والزهور والموائد  والقصور والمآكل والمشارب.

 نلاحظ   قول  ابي الفرج  في  وصف جسر جديد  شيد  
على  نهر دجلة:

أيا  حبذا  جسراً على متن دجلة
                                      بإتقان    تأسيس  وحسنٍ  ورونق

جمالٌ   وفخر  للعراق   ونزهة
                                     وسلوة    من أضناه   فرط  التشوق

       كما وصفوا القصور وما فيها من فرش وأثاث ورياش  وما يحيط  بها  من حدائق غنّاء منسقة وما فيها من ورود وازهار مختلفة الالوان والاريج تتغني فيها  الطيور وتلعب  فيها  الظباء والغزلان و وصفوا الآلات الموسيقية والنغمية والألعاب  ورحلات الصيد  والطرد  ووصفوا الخمرة  ومجالسها وأدواتها  وسقاتها  وغلمانها  وما  يتردد  فيها  من أصوات المغنين والمغنيات. 

      اما فن الهجاء  فنلاحظ  فيه في العصر العباسي اتجاهين الهجاء السياسي والهجاء الشخصي وقد امتاز اللونان معاً بالسخرية الشديدة والإيذاء المؤلم للمهجو. فالهجاء السياسي في الاغلب اتجه نحو التركيز على الإنحراف الديني و نسب  الشذوذ  و الزندقة  للمهجوين .

       و مِنْ الهجاء  السياسي او الهجاء العام  قول دعبل الخُزاعي في هجاء الخليفتين  المعتصم و الواثق:

     خليفةٌ ماتَ لمْ يَحزنْ لهُ أحدُ
                                           و آخرٌ قامَ لمْ يفرح به أحدُ

    فَمَرَّ هَذا وَمَرَّ الشُؤمُ  يَتبَعُهُ
                                          وَقامَ هَذا فَقامَ الشُؤمُ وَالنَكَدُ

       و الهجاء  الشخصي  اتجه  نحو السخرية ورسم الصورالهزلية المضحكة والمعيبة  للمهجو. مثال  ذلك :
 قول  ابن الرومي  في  الهجاء   :

        ولحية  يحملها  مـائق
                                       مثل الشراعين إذا أشرعا

        تقوده الريح بها صاغرا
                                        قودا عنيفا يتعب الأخدعا

        فإن عدا والريح في وجهه
                                      لم ينبعث في وجهه إصبعا

         لو غاص في البحر بها غوصة
                                       صـاد  بها  حيتانه  أجمعا

          والزهد  ليس ظاهرةً جديدة على العصر العباسي  إنما هو من عصر الصحابة او التابعين  ثمّ العصر الأموي الذي  برز فيه  الكثير من الشعراء  في أشعارهم  بوادر للزهد والتصوف  مثل الحسن  البصري   وقطع  الأسباب  المتصلة  بالقلوب .لذا  أصبح  الشعر الذي  ينظم  في الامور  الزهدية والدينية  بذاته  اصبح  سلاحا  حادا   يواجه  تيار الزندقة  و الإنحرافْ  و المجون.

    و الزهد بحد ذاته يعتبر سلوكية  يهدف  للابتعاد عن  الدنيا  وهجرها  والالتزام  بالعبادات  والطاعات  الربانية .

         أما التصوف   فهو  نزعة  روحية خالصة  اساسها  المجاهدة  والرياضة  الروحية  والوصول  للكشف عن  الذات  الالهية. وقد ظهر من الرجال المتصوفين: الشيخ  معروف الكرخي  والجنيد  البغدادي  والحلاج  والقاضي الفاضل  وابن الفارض  والشيخ  عبد القادرالكيلاني والسهروردي وابن عربي .

 راجع كتابي ( الغزل في الشعر العربي ) صفحة 233- 258.

       ومن  النساءِ المشهوراتِ بالعبادة والاستغراق في الذات العلية الشاعرة رابعة العدوية و قد  نادت  بالحب الإلهي .
نلاحظ قولها  تناجي حبيبها بعد تعشقت بالذات الالهية  :

           أحبك حبين حب الهوى
                                             وحبـًا   لأنك  أهلاً  لذاكـا

          فأما الذي هو حبّ الهوى
                                            فشغلي بذكرك عمن سواكا

         وأما الذي أنت أهل له
                                            فكشفك للحجبِ حتى أراكا

        و شعر الزهد  الخالي من الغلو يتجلى في شعر أبي العتاهية وشعر أبي نواس الشاعر الماجن بعد توبته في شيخوخته  فله  أبيات  في الزهد تعد من روائع الشعرالعربي  وقيل انه قالها  في اخريات ايامه  بعد أنَ  تيقظ  من غفلته و تاب إلى الله تعالى .
 لاحظ  قوله في الزهد :

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً
                                         فلقد علمت  بأن عفوك أعظمُ

أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرعاً
                                        فإذا رددت  يدي فمن ذا يرحمْ

إنْ كانَ لا يرجوك إلا مُحسنٌ
                                        فبمن  يلوذ و يستجيـر المجرم

مالي إليكَ وسيلةً إلا الرجــا
                                        و جميل  ظني  ثمَّ إني  مسلـمُ

       اما في  شعرالحكمة - وكانت هذه في الجاهلية ايضا قالها كثير من شعراء  الجاهلية  مثل زهير بن ابي سلمى  ولبيد – وقد  أثرَّت  حركة الترجمة الواسعة في  شعر الحكمة  فنجد أن بعض الشعراء في العصر العباسي استوعبوا الحكم  اليونانية  والفارسية و الهندية التي ترجمت للفارسية  ثم نقلها ابن المقفع  وغيره  إلى العربية فتمثلوا بها شعراً ، وضمنوا بعضها أبياتهم  مثل كتاب ( كليلة ودمنة ) ذي الاصول الهندية  او  كتاب( الأدب الكبير) وكتاب ( الأدب الصغير)  اللذين نقل فيهما ابن المقفع من تجارب الفرس وحكمهم  الكثير .
نلاحظ  قول  صالح  عبد  القدوس  يقول :

المرء يجمع و الزمان يفـرق
ويظـل يرقع و الخطوب تمزق

ولأن يعادي عاقلا خيـر له
                                        مـن أن يكون له صديق أحمق

فارغب بنفسك أن تصادق أحمقا
                                     إن الصديق علي الصديق مصدق

وزن الكلام  إذا  نطقت  فإنما
                                     يبدي عيوب ذوي العقول المنطق


       اما في الرثاء  فقد أثرَّت الحضارة فيه  فبعدَ أن كان الشعراء العرب ينظمونه في البحور الطويلة اصبح  الشعراء في هذا العصر ينظمونه  في البحور الخفيفة. وفي رثاء الخلفاء  وليس جديدا على الشعر العربي رثاؤهم  . نلاحظ قول  ابي نؤاس في  رثاء  الامين :

طوى الموت ما بيني وبين محمّد
                                         وليس   لما تطوي المنية  ناشر

وكنت عليه أحذر الموت وحده
                                          فلم  يبق لي  شئ  عليه  أحاذر

      كما  بكى شعراء هذا العصر أبنائهم  ورثوهم  مثلما  فعل الشعراء  في العصور المتقدمة  قبلهم  و مِنْ ذلك رثاء ابن الرومي  لأ بنه محمد حين توفاه الموت اوخطفته يد المنون :

بكاؤكما يُشفي و إنْ كانَ لا يُجدي
                                         فجودا فقد أودى نظيركما عندي

بُنيَّ الذي أهدتـهُ كفاي للثـرى
                                       فيا عزَّة المَهديّ يا حسرةَ المُهدي

ألا قاتل الله المنايا ورميـها
                                       من القوم حبات القلوب على عمد

توخى حمام الموت أوسط صبيتي
                                           فللَّه كيف اختار واسطة العقد

       الا ان  من جديد رثاء  العصر العباسي رثاء المغنين  والاحبة والاصدقاء  و تضمن هذا الرثاء  أوصافًا  لم يعرفها  الرثاء  العربي. 
   و من  ذلك قول أحدهم  في رثاء المغني إبراهيم الموصلي:

          بكت المسمعات حزناً عليه
                                        وبكاه الهوى وصفو الشراب

         وبكت آلة المجالس حتى
                                          رحم العود دمعة المضراب

         اما  الخمرة  فهي  فنٌ أدبيٌ  ليسَ  بجديدٍ  على  الشعر العربي   وإنما هو قديم  ابتدأ   قبلَ الإسلامْ  ومن أشهرالشعراء في العصرالجاهلي   في  وصفِ  الخمرة الاعشى وعمرو  بن كلثوم  ولما  جاء  الإسلام  أمر  بتحريمها   وحدّ  شاربيها  وصانعيها  وبائعيها وحامليها  . لذا  قلت معاقرتها  والقول  فيها  واقتصر على  نفرٍ قليل . وفي العصر الاموي انبعثت من جديد  على ايدي عدد من الشعراء اغلبهم من غير المسلمين مثل الاخطل التغلبي  .

      اما في العصر العباسي  فقد شاعت الخمرة  وتوسعت مجالسها  وكثرت حاناتها  وزاد الإقبال عليها  نتيجة الترف  وكثرة اللهو  والمجون  في هذا العصر وانفتاحه  ويبدو  أن الحرية  وراء هذا الإقبال.  وفي كل هذا  قال الشعراء وانشدوا  ومن اشهر  من قال فيها الشاعر ابو نؤاس والشاعر غالب عبد القد وس  الذي يقول فيها :

   أديرا عليّ الكأس إنّي فقدتها
                                          كما فقد المفطوم درّ المراضعِ

  و قول ابي نؤاس  هذه الابيات :


دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
                                 وداوني بالتي كانت هي الداء

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
                                    لو مسها  حجر مسته سراء

قامت بإبريقها والليل معتكر
                                 فلاح من وجهها في البيت لألاء

فأرسلت من فم الإبريق صافية
                                     كأنما أخذها  بالعين   إغفاء

رقت عن الماء حتى ما يلائمها
                                     لطافة وجفا عن شكلها الماء

فلو مزجت بها نوراً لمازجها
                                       حتى تولد  أنواراً  وأضواء

دارت على فتية دان الزمن لهم
                                        فما يصيبهم  إلا بما  شاؤوا

لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
                                     كانت  تحل بها هند وأسماء

       اما الفترة الزمنية التي تحدثت عن شعرائها فتشمل القرنين الثاني والثالث  أي  من \  132هجرية -  746 ميلادية  وحتى بداية القرن الرابع الهجري أي لسنة \400 هجرية .

        فالشعراء الذين عاشوا في هذه الفترة الزمنية  من الدولة العباسية هم من تحدثت عن اشهرهم  وهو مانسميه  بالعصر العباسي الاول  - واهم  شعراء هذا العصر  بشار بن برد شيخ المجددين و ابو تمام  والبحتري وابر نؤاس وابو العتاهية  وابن المعتز وصريع الغواني  والمتنبي  وكشاجم  وابو فراس الحمداني  وغيرهم كثير  وقد كان  افضل شعراء هذا العصر ابو تمام  الطائي  والبحتري ومن خلال  دراستي لشعرهم والاستيناس باراء النقاد ومؤرخي الشعرالعربي والمهتمين به  نقر حقيقة ان ابا تمام هوالشعر في هذا العصر  امير شعراء العصر  .
        اما  ابو الطيب المتنبي فهو  شاعر العربية الاول  الذي لم تلد النساء العربيات شاعرا مثله  منذ ان نشأ الشعر في الجاهلية ولحد كتابة هذه الحروف  فهو ملك الشعر العربي  وملك الشعراءالعرب جميعا فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس  ويحق للعربية ان تفخر به شاعرا عظيما  لذا يكون لنا في هذا العصر وهو العصرالذهبي للغة العربية وعلومها وصفاء آدابها وبلاغتها  ونحوها وتمام قواعدها   شاعران  :

 الاول  ابو الطيب المتنبي  وهو ملك الشعر وملك الشعراء على مر الدهور والعصور

    والثاني  ابو تمام الطائي  وهو امير  الشعر واميرالشعراء في هذا العصر
          


       **********************************************


























ابو تمام الطا ئي

امير شعراء  العصر العباسي الاول




       هو حبيب بن اوس  الحارث   بن قيس  بن الأشج  بن  يحيى  أبو تمام الطائي، الشاعر الأديب  ينتمي الى قبيلة طي العربية وقد اختلف  مؤرخوا  الادب في نسبه  الى طي كما اختلفوا  في مكان ولادته  وزمنها . 

         ولد ابو تمام سنة\ 188 هجرية   وأصله من قرية (جاسم)  من اعمال  (الجيدور) بالقرب من طبرية احدى القرى التابعة لاعمال دمشق ويقال انه ولد من اسرة فقيرة معدمة  تدين بالنصرانية وقد انتقلت عائلته الى دمشق طلبا للرزق والمعاش وهو لما يزل طفلا صغيرا   فآثر ابوه  واسمه  (تدوس)  الانتقال الى دمشق   لكسب  الرزق  وفتح  حانة  فيها.

        امـــا  حبيب  فاشتغل  مساعد  عند  قزاز في  المدينة  وقيل  تفتحت  قريحته الشعرية  في  سن  مبكرة .

           و ذكر  انه  فكر  في  امـر عقيدته  الــدينية  فنبـذ النصرانية واسلم  وغير اسم ابيه من تدوس الى ( اوس ) اذن نشأ في دمشق  التي كانت  جنة الدنيا  وروضة من رياضها فتأثـــــر  بهذه البيئة  ولاريب في ذلك لما للبيئة من تأثير على الادباء والشعراء   ثم انتقل مـن دمشق الى حمص  وهناك اتصل بشاعرها المعروف  (ديك الجن ) ولازمه فاحبه وساعده على المضي في طريقه في  نظم الشعر  لما لاحظ فيه قريحة وقادة  وشاعرية  بدات تتفتح  وقــد كسب ابو تمام منه اشياء  لاباس بها0

      بعد ان اشتد ساعده وتفتحت ملكته الشعرية  انخرط  في مدح اسرة  طائية  ردحا من الزمن  حتى قيل  ان نسبته الى طي  كانت بسبب  مدحه لهذه العائلة والصحيح ان نسبه الى طي راجع (( النظام فـــي شرح شعر المتنبي وابي تمام لابن المستوفي الاربلي.
 فتفتحت مواهبه في سن مبكرة.

        وبقي في حلب ردحا من الزمن ثم رحل بعدها متوجها الى مصر  وفي مصر في حداثته اخذ يسقي الناس  الماء في المسجد الجامع  ثم جالس بعض الأدباء فأخذ عنهم وكان فطنا فهما  وكان يحب الشعر فلم يزل ينظمه حتى قال الشعر فأجاد  فيه  حتى قيل واستقى الادب من مناهله  الحقة  في ذلك الجامع الذي كانت  تعقد  فيه مجالس  للدرس والتعلم في كل العلوم بما فيها الادب والشعر  فكان فيه يسقي الماء  ويستسقي العلم مكانه  وكذلك  اطلع اطلاعا واسعا على علوم  القران الكريم وتاثر في اسلوبه حتى  قيل انه حفظ القران الكريم كله.

       بعد خمس سنوات قضاها في مصر تكاملـــت شاعريته  وثقافته انفرد في مدح رجل  حضرمي  يقال له  (عياش بن هليعة )  على امل  مناه به الا انه طال مكوثه ولم ينل  ما مناه به  فهجره  وهجاه  وقد ساءت حاله فــي مصر  بعد ذلك فذكر اهله واحبته  في الشام  وزاد حنينه اليها  حيث الاهل والاخلاء  فتوجه اليها من جديد عائدا الى الشام  .

      في اثناء عودته الى الشام استغل وجود الخليفة المامون  فيها  فمدحه  لكن الخليفة  اعرض عنه  لانه علوي الراي_ كما قيل _الا انه كانت قد طارت شهرته  وعرف بقصيده وشعره الجيد .

      بقي ابو تمام متجولا متنقلا من بلد الى اخر ناظما الشعر وقيل انه كان كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع وغير ذلك. حتى طارت شهرته  وعرف في كل الاوساط العربية الرائعة.

       وكان الشعراء يقصدون أبا تمام طلبا لاعترافه بهم ونصحه لهم  حيث  كان خبيرا بالصنعة الفنية في الشعر  فلما وفد عليه البحتري مع جمع من الشعراء قال أبو تمام للبحتري:

-        أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك ؟؟

     ويبدو أن إعجاب ابي تمام  به   دفع  البحتري  إلى الاطمئنان اليه  على أمور معاشه   فشكا البحتري اليه  بؤسه وفقره  فوجهه أبو تمام  برسالة توصية إلى أهل معرة النعمان مؤكداً على شاعريته المتفتحة  وكأنه يدفع  به إلى مسيرته الطويلة.

وكان يقال:   ظهر في طيء ثلاثة:

حاتم الطائي  في كرمه  وداود الطائي في زهده، وأبو تمام في شعره.

      و كان من  الشعراء  في  زمنه  جماعة  فمن مشاهيرهم: أبو الشيص  والبحتري  ودعبل الخزاعي  وابن أبي قيس  وكان أبو تمام من خيارهم دينا وأدبا وأخلاقا وشعرا .
ومن رقيق شعره قوله:

يا حليف الندى ويا معدن الجود  
                                          ويا خير من حويت القريضا

ليت حماك بي وكان لك الأجـ  
                                         ـر فلا تشتكي وكنت المريضا

. اشهر ابو تمام  بالمدح  والوصف  والرثاء واغراض اخرى برع فيها كثيرا ومن شعره في وصف الربيع .

  هذه الابيات الجميلة :

    رقت حواشي الدهر فهي تصور
                                           وغدى الثرى في حليه يتكسر

  ياصاحبي   تقصيا   نظريكما
                                         تريا وجوه الارض كيف تصور

   تريا نهارا مشمسا   قد شابه
                                     زهر الربى   فكانما      هو  مقمر

   دنيا معاش للورى   حتى اذا
                                      حل   الربيع    فانما   هي   منظر

 اضحت تصوغ بطونها لظهورها
                                        نورا  تكاد له    القلوب     تنور

 في  كل ازاهير ترقرق بالندى
                                      فكاانها    عين    اليك      تحدر

         ولما اصبح  المعتصم  خليفة المسليمن  استقدمه واتخذه شاعر الدولة وجعله من شعرائه  وخاصته  وفضله  على غيره  من  الشعراء  لقوة شعره وبلاغته  الا انه رغم ذلك ظل  متجولا لجبولته  على التنقل  وقد تنقل بين الشام ومصر والعــراق وفارس  حيث مدح والى خراسان هناك  ثم عاد الى بغداد  وعندما رجع الخليفة المعتصم منتصرا ضافرا فاتحا  (عمــورية ) تلقاه الشاعر ابو تمام مادحا اياه  ببائيته المشهورة:-

السيف اصدق انباءا من الكتـــــــــب  
                                             في حده الحد  بين  الجد واللعـــــب

ونقل ابن خلكان:

    ان ابا تمام  قد امتدح أحمد بن المعتصم ,وقيل ابن المأمون بقصيدته التي يقول فيها:

إقدام عمرو في سماحة حاتم
                                       في حلم أحنف في ذكاء إياس

    فقال له بعض الحاضرين: أتقول هذا لأمير المؤمنين وهو أكبر قدرا من هؤلاء؟ فإنك ما زدت على أن شبهته بأجلاف من العرب البوادي. فأطرق إطراقة خفيفة  ثم رفع رأسه فقال:

لا تنكروا ضربي له من دونه
                                         مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
                                           مثلا  من المشكاة والنبراس

        فلما  أخذوا القصيدة منه  لم يجدوا فيها هذين البيتين، وإنما قالهما ارتجالا.

         مدح ابو تما م  المعتصم وبعض القادة والولاة واصحاب النفوذ
اذ كان من المتكسبين في الشعر  وظل يتنقل  بين بغداد والشام     واتصل بكثر من الرجال  منهم عبد الملك الزيات الذي كان وزيرا للخليفة الواثق فقربه , فاكرمه الواثق  واحسن اليه  الا انه  ترك  بغداد  متجها  صوب الموصل  وكا ن فيها  ابن وهب حيث ولاه  بريد الموصل التي بقي فيها اقل من حولين ثم وافته المنية

          توفي في الموصل عام \ 231 هجرية – 839 ميلادية

        ابو تمام من فحول شعراء  العربية ويمتاز شعره بالصياغة اللفظية   والصناعة الشعرية  حيث  كان  ينتقي  لقصائده  احسن الاساليب  والمعاني  وافضلها  ذو شاعرية وقادة متفتحة  اشتهر بالمدح  والوصف  والرثاء واغراض اخرى برع فيها كثيرا. ومن شعره في وصف الربيع   هذه الابيات الجميلة :

    رقت حواشي الدهر فهي تصور
                                          وغدى الثرى في حليه يتكسر

     ياصاحبي   تقصيا   نظريكما
                                       تريا  وجوه الارض كيف تصور

   تريا نهارا مشمسا   قد شابه
                                    زهر الربى   فكانما      هو  مقمر

   دنيا معاش للورى   حتى اذا
                                    حل   الربيع    فانما   هي   منظر

 اضحت تصوغ بطونها لظهورها
                                      نورا  تكاد له    القلوب     تنور

 في  كل ازاهير ترقرق بالندى
                                      فكاانها    عين    اليك      تحدر

        ابو تمام  مـن فحول الشعراء العـــــــــــــــرب المعدودين  شاعر  ذو شخصية نافذة وثقافة واسعة وفكر ثاقب وادراك ا وسع ذو شاعرية عبقرية وقريحة فياضة يغلب على شعره المتانــــــة الشعرية والرزانة  وقوة السبك وفي بعض الاحيان غرابة اللفظ   فلا يتسنى  فهمه الا  بعد رويــة  واناة  ومن  لهم  باع  في العربية . اكثــر من الغريـب فيه ولا ريب في ذلك فهو شاعر قوي المعرفة قوي الاحساس  واسع الثقافة  فاهم اللغة  متظلعا  فيها فظهرت كـل هذه الامور في شعره . ابتكر الالفاظ  وطورها  والمعاني  وصورها , خاض  جل  الفنون الشعرية  واغراض   الشعر  وابدع   في  المدح   والوصف  خاصة  ويتجلى  في مدحه انه شاعر  معتمد  على  نفسه  فخورا  بها  يندفع  في  مدحه  بحماس  وجرأة  شديدة  تدل على شجاعته  ونفسيته  القوية  ومدحه  يفوق  من حيث الجودة  بقية شعره  بحسن التعبير ودقة التصوير فهو بحق  امير الشعرالعربي في هذا العصر وربما رشح  النقاد ومؤرخو الادب معه  البحتري  الا اني ارى انه اشعر وابصر وانه كان استاذه ,  كما  نلحظ   فيه  التناقض  وحبه اللفـظ  الغريب ومن جيد مدحه  يقول في قصيدته  التي مدح فيها الخليفة الواثق :

جاءتك  من نظم اللسان  قلادة       
                                             سمطان فيها اللؤلؤ الكنــــــــــون

انسية وحشية  كثر ت  بهـــــا   
                                               حركات اهل الارض وهي سكون

ينبوعها حضل وحلي قريضها      
                                               حلى الهدى ونسجها موضــــون

     ويطيب لي ان  ان اختم بحثي بذكر  قصيدته  في  مدح  المعتصم  بعد  فتح  عمورية لانها تعد من  روائع الشعر العربي :

السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ
                                         في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في
                                             مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ

والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة ً
                                    بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافي السَّبْعَة ِ الشُّهُبِ

أَيْنَ الروايَة ُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا
                                      صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ

تخرُّصاً   وأحاديثاً   ملفَّقة ً
                                            لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولاغَرَبِ

عجائباً     زعموا   الأيَّامَ
                                         عَنْهُنَّ في صَفَرِ الأَصْفَار أَوْ رَجَبِ

وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَة ٍ
                                           إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ

وصيَّروا الأبرجَ العُلْيا مُرتَّبة ً
                                               مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ

يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
                                            ما دار في فلك منها وفي قُطُبِ

لو بيَّنت  قطّ أمراً  قبل موقعه
                                           لم تُخْفِ ماحلَّ بالأوثان والصلُبِ

فَتْحُ الفُتوحِ تَعَالَى أَنْ يُحيطَ بِهِ
                                         نَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ

فتحٌر  تفتَّحُ  أبوابُ السَّماءِ لهُ
                                          وتبرزُ الأرضُ في أثوابها القُشُبِ

يَا يَوْمَ وَقْعَة ِ عَمُّوريَّة َ انْصَرَفَتْ
                                          منكَ المُنى حُفَّلاً معسولة َ الحلبِ

أبقيْتَ جدَّ بني الإسلامِ في صعدٍ
                                        والمُشْرِكينَ ودَارَ الشرْكِ في صَبَبِ

أُمٌّ لَهُمْ لَوْ رَجَوْا أَن تُفْتَدى جَعَلُوا
                                              فداءها  كلَّ  أمٍّ  منهمُ  وأبِ
وبرْزة ِ الوجهِ قدْ أعيتْ رياضتُهَا
                                      كِسْرَى وصدَّتْ صُدُوداً عَنْ أَبِي كَرِبِ

بِكْرٌ فَما افْتَرَعَتْهَا كَفُّ حَادِثَة ٍ
                                            ولا  ترقَّتْ  إليها  همَّة ُ النُّوبِ

مِنْ عَهْدِ إِسْكَنْدَرٍ أَوْ قَبل ذَلِكَ قَدْ
                                       شابتْ نواصي اللَّيالي وهيَ لمْ تشبِ

حَتَّى إذَا مَخَّضَ اللَّهُ السنين لَهَا
                                     مَخْضَ البِخِيلَة ِ كانَتْ زُبْدَة َ الحِقَبِ

أتتهُمُ الكُربة ُ السَّوداءُ سادرة ً
                                          منها وكان اسمها فرَّاجة َ الكُربِ

جرى لها الفالُ برحاً يومَ أنقرة ِ
                                   إذْ غودرتْ وحشة َ  الساحاتِ والرِّحبِ

لمَّا رَأَتْ أُخْتَها بِالأَمْسِ قَدْ خَرِبَتْ
                                         كَانَ الْخَرَابُ لَهَا أَعْدَى من الجَرَبِ

كمْ بينَ حِيطانها من فارسٍ بطلٍ
                                           قاني الذّوائب من آني دمٍ سربِ

بسُنَّة ِ السَّيفِ والخطيَّ منْ دمه
                                          لاسُنَّة ِ الدين وَالإِسْلاَمِ مُخْتَضِبِ

لقد تركتَ أميرَ المؤمنينَ بها
                                         للنَّارِ يوماً ذليلَ الصَّخرِ والخشبِ

غادرتَ فيها بهيمَ اللَّيلِ وهوَ ضُحى ً
                                             يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ

حتَّى كأنَّ جلابيبَ الدُّجى رغبتْ      
                                          عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ

ضوءٌ منَ النَّارِ والظَّلماءُ عاكفة ٌ
                                       وظُلمة ٌ منَ دخان في ضُحى ً شحبِ

فالشَّمْسُ طَالِعَة ٌ مِنْ ذَا وقدْ أَفَلَتْ
                                         والشَّمسُ واجبة ٌ منْ ذا ولمْ تجبِ

تصرَّحَ الدَّهرُ تصريحَ الغمامِ لها
                                          عنْ يومِ هيجاءَ منها طاهرٍ جُنُبِ

لم تَطْلُعِ الشَّمْسُ فيهِ يَومَ ذَاكَ على
                                            بانٍ بأهلٍ وَلَم تَغْرُبْ على عَزَبِ

ما ربعُ ميَّة َ  معموراً يطيفُ بهِ
                                       غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبى ً مِنْ رَبْعِهَا الخَرِبِ

ولا الْخُدُودُ وقدْ أُدْمينَ مِنْ خجَلٍ
                                         أَشهى إلى ناظِري مِنْ خَدها التَّرِبِ

سَماجَة ً غنِيَتْ مِنَّا العُيون بِها
                                          عنْ كلِّ حُسْنٍ بدا أوْ منظر عجبِ

وحُسْنُ  مُنْقَلَبٍ  تَبْقى  عَوَاقِبُهُ
                                           جاءتْ بشاشتهُ منْ سوءٍ منقلبِ

لوْ يعلمُ الكفرُ كمْ منْ أعصرٍ كمنتْ
                                           لَهُ العَواقِبُ بَيْنَ السُّمْرِ والقُضُبِ

تَدْبيرُ  مُعْتَصِمٍ  بِاللَّهِ  مُنْتَقِمِ
                                                  للهِ مرتقبٍ في الله مُرتغبِ

ومُطعَمِ النَّصرِ لَمْ تَكْهَمْ أَسِنَّتُهُ      يوما
                                              ولاَ حُجبتْ عنْ روحِ محتجبِ

لَمْ يَغْزُ قَوْماً، ولَمْ يَنْهَدْ إلَى بَلَدٍ
                                                إلاَّ تقدَّمهُ جيشٌ من الرَّعبِ

لوْ لمْ يقدْ جحفلاً، يومَ الوغى  لغدا
                                       منْ نفسهِ، وحدها، في جحفلٍ لجبِ

رمى بكَ اللهُ بُرْجَيْها فهدَّمها
                                            ولوْ رمى بكَ غيرُ اللهِ لمْ يصبِ

مِنْ بَعْدِ ما أَشَّبُوها واثقينَ بِهَا
                                             واللهُ مفتاحُ باب المعقل الأشبِ

وقال ذُو أَمْرِهِمْ لا مَرْتَعٌ صَدَدٌ
                                           للسارحينَ وليسَ الوردُ منْ كثبِ

أمانياً سلبتهمْ نجحَ هاجسها
                                        ظُبَى السيوفِ وأطراف القنا السُّلُبِ

إنَّ الحمامينِ منْ بيضٍ ومنْ سُمُرٍ
                                         دَلْوَا الحياتين مِن مَاءٍ ومن عُشُبٍ

لَبَّيْتَ صَوْتاً زِبَطْرِيّاً هَرَقْتَ لَه
                                        كأسَ الكرى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ

عداك حرُّ الثغورِ المستضامة ِ عنْ
                                        بردِ الثُّغور وعنْ سلسالها الحصبِ

أجبتهُ مُعلناً بالسَّيفِ مُنصَلتاً
                                            وَلَوْ أَجَبْتَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَمْ تُجِبِ

حتّى تَرَكْتَ عَمود الشرْكِ مُنْعَفِراً
                                             ولم تُعرِّجْ على الأوتادِ والطُّنُبِ

لمَّا رأى الحربَ رأْي العينِ تُوفلِسٌ
                                       والحَرْبُ مَشْتَقَّة ُ المَعْنَى مِنَ الحَرَبِ

غَدَا يُصَرِّفُ بِالأَمْوال جِرْيَتَها
                                             فَعَزَّهُ البَحْرُ ذُو التَّيارِ والحَدَبِ

هَيْهَاتَ! زُعْزعَتِ الأَرْضُ الوَقُورُ بِهِ
                                        عن غزْوِ مُحْتَسِبٍ لا غزْو مُكتسبِ

لمْ يُنفق الذهبَ المُربي بكثرتهِ
                                          على الحصى وبهِ فقْرٌ إلى الذَّهبِ

إنَّ الأُسُودَ أسودَ الغيلِ همَّتُها
                                      يوم الكريهة ِ في المسلوب لا السَّلبِ

وَلَّى ، وَقَدْ أَلجَمَ الخطيُّ مَنْطِقَهُ
                                         بِسَكْتَة ٍ تَحْتَها الأَحْشَاءُ في صخَبِ

أَحْذَى قَرَابينه صَرْفَ الرَّدَى ومَضى
                                            يَحْتَثُّ أَنْجى مَطَاياهُ مِن الهَرَبِ

موكِّلاً بيفاعِ الأرضِ يُشرفهُ
                                     مِنْ خِفّة ِ الخَوْفِ لا مِنْ خِفَّة ِ الطرَبِ

إنْ يَعْدُ مِنْ حَرهَا عَدْوَ الظَّلِيم، فَقَدْ
                                        أوسعتَ جاحمها منْ كثرة ِ الحطبِ

تِسْعُونَ أَلْفاً كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْ
                                           جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ

يا رُبَّ حوباءَ لمَّا اجتثَّ دابرهمْ
                                       طابَتْ ولَوْ ضُمخَتْ بالمِسْكِ لم تَطِبِ

ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِيضُ السُّيُوفِ بِهِ
                                        حيَّ الرِّضا منْ رداهمْ ميِّتَ الغضبِ

والحَرْبُ قائمَة ٌ في مأْزِقٍ لَجِجٍ
                                          تجثُو القيامُ بهِ صُغراً على الرُّكبِ

كمْ نيلَ تحتَ سناها من سنا قمرٍ
                                         وتَحْتَ عارِضِها مِنْ عَارِضٍ شَنِبِ

كَمْ أَحْرَزَتْ قُضُبُ الهنْدِي مُصْلَتَة ً
                                         تهتزُّ  منْ   قُضُبٍ   تهتزُّ في كُثُبِ

بيضٌ، إذا انتُضيتْ من حُجبها، رجعتْ
                                            أحقُّ بالبيض أتراباً منَ الحُجُبِ

خَلِيفَة َ اللَّهِ جازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْ
                                        جُرْثُومَة ِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ

بصُرْتَ بالرَّاحة ِ الكُبرى فلمْ ترها
                                              تُنالُ إلاَّ على جسرٍ منَ التَّعبِ

إن كان بينَ صُرُوفِ الدَّهرِ من رحمٍ
                                           موصولة ٍ أوْ ذمامٍ غيرِ مُنقضبِ

فبَيْنَ  أيَّامِكَ  اللاَّتي  نُصِرْتَ بِهَا
                                                وبَيْنَ أيَّامِ بَدْر أَقْرَبُ النَّسَبِ

أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْرَاضِ كأسِمِهمُ
                                          صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ




                ************************








ابو الطيب (المتنبي)

ملك الشعراء
 



       أبو الطيب هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي ولد بالكوفة سنة \ 303 هـجرية – 915 ميلادية .ونسب إلى قبيلة كندة العربية نتيجة لولادته بحي تلك القبيلة في الكوفة .   

         كان  أبوه  سقاءاً  يسقي الماء لاهل الكوفة وقـــد نشـــــــأ  الوليد طموحا جدا  ذو نفسية  ثورية وامل قوي .عزم منذ البداية وهو طفل الى  مناه  ومن  سار على الدرب وصل.  وتوفيت  امه  وهوطفل صغير فاهتمت بتربيته  جدته لامه  فلما توفيت جدته  رثاها  بافضل رثاء مبينا  ما في  نفسه :

أَلا  لا  أَرى  الأَحداثَ  حَمدًا  وَلا  ذَمّا
                                     فَما  بَطشُها  جَهلاً   وَلا   كَفُّها     حِلما

إِلى  مِثلِ  ما  كانَ  الفَتى  مَرجِعُ  الفَتى  
                                        يَعودُ  كَما  أُبدي  وَيُكري  كَما  أَرمى

لَكِ   اللهُ    مِن    مَفجوعَةٍ    بِحَبيبِها   
                                       قَتيلَةِ   شَوقٍ   غَيرَ   مُلحِقِها   وَصما

أَحِنُّ  إِلى  الكَأسِ  الَّتي   شَرِبَتْ   بِها  
                                  وَأَهوى   لِمَثواها   التُرابَ   وَما     ضَمّا

بَكَيتُ   عَلَيها   خيفَةً    في    حَياتِها    
                                         وَذاقَ   كِلانا    ثُكلَ    صاحِبِهِ    قِدما

وَلَو   قَتَلَ   الهَجرُ    المُحِبّينَ    كُلَّهُمْ   
                                       مَضى  بَلَدٌ   باقٍ   أَجَدَّتْ   لَهُ     صَرما

مَنافِعُها  ما   ضَرَّ   في   نَفعِ   غَيرِها 
                                       تَغَذّى  وَتَروى  أَن  تَجوعَ  وَأَن    تَظما

عَرَفتُ  اللَيالي  قَبلَ  ما   صَنَعَتْ   بِنا    
                                       فَلَمّا  دَهَتني   لَم   تَزِدني   بِها     عِلما


         و فطن إليه  أبوه  منذ  الصغـــــــر  فاجراه  الى كتاتيب الكوفة  ومجالسها  وكانت الكوفة يومذاك حاضرة من حواضر المعرفة و جامعة للعلم والثقافة والادب   فتعلم القراءة والكتابة وأحـــب مجالس الأدب والشعر  وكان ذا فكر وقاد وقريحة  ثاقبة وحافظة عجيبة  فحفظ الشعر وتعلم العربية وأصولها ثم رحل في صباه الى بادية السماوة  ليتعلم اللغة الفصحى البعيدة عن اللحن وبقي فيها سنين  تعلم الكرم الشجاعة  والشهامة العربية وحدة المـــــــزاج  واحب الحرية حتى عاد إلى الكوفة  وكأنه بدوي صميم .

        نشأ أبو الطيب  في  فترة تفككت فيها الدولة العباسية ونشأ ت الدويلات الاسلامية وتناثرت . تلك الدويلات  التي نخرت جسم الدولة العباسية  وقامت على  اجزاء قسم منها  بعد نضج حضاري وصل الى منتهاه  وتصدعات  سياسية وتوترات  وصراعات شديدة   عاشها العرب والمسلمون.  وقيل  كني ب ( المتنبي ) لقوله  قصيدته الدالية  منها :

 مَا مُقامي  بأرْضِ  نَخْلَةَ  إلاّ           كمُقامِ  المَسيحِ  بَينَ  اليَهُودِ

لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي                   وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي

وبهمْ فَخْرُ كلّ مَنْ نَطَقَ الضّا         دَ وَعَوْذُ الجاني وَغَوْثُ الطّريدِ

إنْ أكُنْ مُعجَباً فعُجبُ عَجيبٍ            لمْ يَجدْ فَوقَ نَفْسِهِ من مَزيدِ

أنَا تِرْبُ النّدَى وَرَبُّ القَوَافي           وَسِمَامُ العِدَى وغَيظُ الحَسودِ

أنَا في  أُمّةٍ  تَدارَكَهَا  اللّـ               ـهُ غَريبٌ  كصَالِحٍ  في ثَمودِ


        الخلافة  في  بغداد  انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي اصبح في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من الاعاجم  غير العرب.

 ثم  ظهرت الدويلات  والإمارات  المتصارعة  في  بلاد الشام وغيرها وتعرضت   الدولة  الاسلامية  لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية  ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق وغيره مثل حركة القرامطة في  الخليج  العربي  والبحرين  وهجماتهم على الكوفة والمدن  العربية  الاخرى  وقد قيل انهم هجموا على مكة المكرمة  واستحلوا الكعبة المشرفة  البيت الحرام  واخذوا الحجر الاسود معهم الى البحرين  وبقي  عندهم  احدى عشرة سنة .

    و كان لكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة ولكل وزير مجلس يجمتع فيه الشعراء والادباء والعلماء يتفاخرون  بينهم  ويتنافسون  كوسيلة وصلة بينهم  وبين الحاكمين لهذه  الدويلات  والمجتمع  فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء  يعني  اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس  او الوزير . فالشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله  المقصود الجديد  وأكبره  لينافس  به خصمه أو ليفخر بصوته.

      و كانت نشأة أبي الطيب بفكره الوقاد  فوعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله  فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة و قوة الحفظ  لديه  فكان له شأن كبير  في مستقبل الأيام أثمر في  عبقرية  في الشعر العربي. فأعلن عنها  في شعره تلميحاً وتصريحاً  وقد  نصحه  بعض اصدقائه وحذره من مغبة أمر نفسيته  المتعالية  وطموحه  الشديد  وحذروه من ذلك  ومنهم  أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل   فلم يستمع  المتنبي  لاحد  فانتهى به  الأمر إلى السجن.

         وقد تفتحت  منابع الشعر فيه  من مناهلها الأولى منذ الطفولة  المتنبي هذا ذو النفسية العالية المتكابرة كان يـــرى كل الناس اقل منه شأنا  وانه  يرى نفسه أفضل  من  الملوك  والامراء  وأولادهم  في  ملكهم  ومــــــــــن عروشهم غير هياب من احد  انظر إليه في شبابــــه يقول:-

أي محل ارتقــي            أي عظيم اتقــــــي
وكل ما خلق الله            وما لم يخلـــــــــق
محتقر في همتي            كشعرة في مفرقي
                 
        لذا حقد على كل شيء  في  الزمن  لعدم  نيله  ما  يختلج  في نفسه  من  امانيه الواسعة  وتمرد على دهره وعلى المجتمع  والظلم الاجتماعي  المخيم علـــــــــى الناس في حينه  ويعود ذلك الى نفسه المجبولة  على التمرد  والثورة  وحبه  لذاته  واعجابه  المتغطرس بنفسه  المتعاليــــــــــة  اولا  وللافكار القرمطيــــة التي تفهمها وكانت سائدة  انذاك ثانيا . هذه الافكار  التي تحمل الردة على الدين  والثورة على الاوضـــــــاع الاجتماعية السائدة يومـــــــذاك  والتي لاقت صدى واسعا في نفسية هذا الشاب المراهق المتمرد على كل شىء  فكان مـــــــــــن دعاة الحركة القرمطية .

      الا  انه  بعد جلاء القرامطة عن الكوفـــــــــة  توجه الى  بغداد  حاضرة الدنيا وعاصمة الخلافة  لكنه لم يستقر بها . فسافر الى الشام سنة\ 321 وساح  في  البادية  وفي نفسه  ميل  للفكر القرمطي  متكسبا  بشعره  ليعيش  فيه  حيث  ذاع صيته  في  الشام   وحين  وصل الى حلب   وكان خبره قد انتشر بها  من انه شاعر فـــــذ وانه  قرمطى الافكار و انه قدم  لبث الدعاية لهذا المذهب . فقبض عليـــــه  واودع السجن  وكانت حلب يومذاك  تحت سيطرة الاخشيد وواليهــــــا  ابو لؤلؤ الغوري  ولبث في السجن مدة مكابرا  متعاليا  متمسكــا بافكاره  وارائه ويقول في سجنه  :


كن أيها السجن كيف شئت فقد  
                                                وطنت للموت نفس معترف

لو كان  سكناي  فيك  منقصة   
                                                لم يكن الدر ساكن الصدف


     الا ان طول  مكوثه  في السجن  و تعرضه  للمرض  اذل  جمـــــاح نفسه المتمرده , فطلب العفو  وثاب الى  رشده  وكان  الوالي  الجديد  لحلب  (اسحاق بن كيغلغ )  فكتب اليه  قصيدته  المشهورة  ومطلعها  :

         ايا  خدد الله  ورد الخدود  
                                           وقد  قدود الحسا ن  القدود
  ومنها :

     دعوتك  لما  براني  البلى     
                                             واوهن رجلي  ثقل الحديد

     وقد كان مشيهما  في النعال
                                          فقد صار مشيهما في  القيود

      وكنت من الناس في محفل      
                                             فها انا في محفل من قرود

      تعجل  في  وجوب  الحدود   
                                             وحدي قبل وجوب السجود

    فاطلق الوالي  ( ابن كيغلغ  )سراحه على شرط  ان يغادر حلـب  ولا يبق  بها  ابدا  .

      بقي ابو الطيب متجولا في الشــــــــام  متكسبا بشعره مادحا هذا وذاك  ممن  يراهم  دونه  حتى كره هذه الحياة  وبغضها , وقد لبث في ا نطاكية  اربع سنوات  ثم غادرهــــا  ساخطا  على  نفسه  ودهره  وانحدر نحو الجنوب  الى طبرية  فاتصل  هناك  ببدر بن عمـار  واليها ومدحه  وفي  مدحه له  يقول :

وقَطَعْتُ في الدّنْيا الفَلا ورَكائِبي
                                            فيها وَوَقْتيّ الضّحَى والمَوْهِنَا

فوَقَفْتُ منها حيثُ أوْقَفَني النّدَى
                                           وبَلَغْتُ من بَدْرِ بنِ عَمّارَ المُنى

لأبي الحُسَينِ جَداً يَضيقُ وِعاؤهُ       
                                             عَنْهُ ولَوْ كانَ الوِعاءُ الأزْمُنَا

وشَجاعَةٌ أغْناهُ عَنْها ذِكْرُها     
                                            ونَهَى الجَبَانَ حَديثُها أن يجُبنَا

نِيطَتْ حَمائِلُهُ بعاتِقِ مِحْرَبٍ     
                                           ما كَرّ  قَطُّ  وهَلْ  يكُرُّ وما کنْثَنَى

فكأنّهُ والطّعْنُ منْ قُدّامِهِ  
                                             مُتَخَوِّفٌ  مِنْ  خَلفِهِ أنْ يُطْعَنَا

نَفَتِ التّوَهُّمَ عَنْهُ حِدّةُ ذِهْنِهِ      
                                            فقَضَى على غَيبِ الأمورِ تَيَقُّنَا

يَتَفَزّعُ الجَبّارُ مِنْ بَغَتاتِهِ 
                                              فَيَظَلّ  ر  في  خَلَواتِهِ   مُتَكَفِّنَا

أمْضَى إرادَتَهُ فَسَوْفَ لَهُ قَدٌ      
                                                واستَقرَبَ الأقصَى فَثَمّ لهُ هُنَا

يَجِدُ الحَديدَ على بَضاضةِ جِلْدِهِ 
                                            ثَوْباً  أخَفَّ  مِنَ  الحَريرِ  وألْيَنا

         وكان هذا واليا عباسيا  بعد ان طرد العباسيون الاخشيد من ارض الشام  ولما  كثر حساد  ابو الطيب  على  حضوته  لدى   بدر وكثرت الوشايات  وخال المتنبي  نفسه في مازق  ففر من طبرية عائدا الى انطاكية واتصل  بابي العشائر  الحمداني  والي  انطاكية  مـن  قبل الامارة  الحمدانية  فكان  سببا  في اتصاله  بامير الدولة الحمدانية (سيف الدولة )  حيث توجه الى حلب  مقا م الامارة الحمدانية  في سنة \337 هجرية.

       انقطع  المتنبي  الى مدح  سيف  الدولة الحمداني وكانت شهرته قــــــــد طبقت  الافاق  وقد اناله هذا  الامير  منزلة عظيمة لم ينلها شاعر قبله . منها  انه كان ينشد شعره في حضرة الامير  جالسا  , ووهبه  ما  لم  يهب  احدا من الشعراء من قبلـــــــه  ولا بعده  فعاش   بترف  ورفاه  وكانا  في عمر واحد  تقريبا . وأحب المتنبي  سيف  الدولة  الحمداني لمكانته الكبيرة عنده  طيلة  مكوثه عنده  وقد  منح  الشاعر سيف الدولة  قصائــــد  في المدح والفخر  خلدت  ذكراه  على مدى العصور والازمنة   وستبقى ..  حيث قال فيه  ما لم  يقله شاعر في  خليفة او امير  ومدح المتنبي   سيف الدولة  ما لم يمدح  شاعر  خليفة او اميرا  مثلما  مدحه ومن مدحه له  يقول:-

وقفت  وما في الموت شك لواقــف   
                                          كأنك في جفن الردى وهو نائــم

تمر بك الابطال كلمى  هزيمـــــــــة     
                                          ووجهك وضاح  وثغرك باســــم

تجاوزت  مقدار الشجاعة  والنهى     
                                        الى قول قوم  انت بالغيب عالــــم

ولست مليكا  ها زما  لنظيـــــــــره     
                                         ولكنك  التوحيد للشرك هــــــازم

تشرف عدنان به لا ربيعــــــــــــــة   
                                       وتفخر  الدنيا به  لا العواصـــــــم


       أصبح  المتنبي من شعراء  بلاط  سيف الدولة في حلب  الذي أجازه على قصائده  بالجوائز السنية  وقربه إليه  فكان  من  أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام  وخاض معه المعارك ضد الروم  وتعد قصائده  السيفية  أصفى شعره واسماه . غير أن المتنبي حافظ على عادته  في أفراد الجزء  الأكبر من  أي  قصيدة  يقولها   لنفسه وتقديمه إياها  على ممدوحيه  لكبريائه  وهوى  نفسه  وحبه  لهذه النفس  المكابرة . فكان يقول :

الخيل  والليل  والبيداء  تعرفني
                                         والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 فكان أن  حدثت  بينه  وبين  سيف الدولة  فجوة   دخل  منها   منافسوه  واعداؤه  وقد كثروا في  بلاط الامير سيف  الدولة. و ازداد أبو الطيب  اندفاعاً  وكبرياءا  واستطاع  في حضرة  الامير سيف الدولة في حلب أن يلتقط  أنفاسه  وظن أنه وصل إلى شاطئه الأفضل   وعاش مكرماً عزيزا  مميزاً عن غيره من الشعراء في حلب. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه  ومن حوله  يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس  بالظمأ إلى ما تصبو اليه  نفسه من مدارج  المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده  إلا أنه كان مطمئنا إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي  يشاركه  طموحه  وإحاسيسه. وسيف الدولة  يحس  بطموحه  العظيم ويتفهم  ما في نفس شاعره  وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره   قاعداً  وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير  واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسهفي شعره  ويضعها أحياناً بصف الممدوح  إن لم  يرفعها  عليه. ولربما  احتمل الامير  على مضض تصرفاته العفوية  إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء  فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.الا انه في بعض المواقف القليلة التي كان المتنبي مضطرا  لمراعاة  الجو المحيط  به  فقد كان يتطرق إلى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد   لكن ذلك  لم  يكن  إعجابا  بالأيام الخوالي وإنما  وسيلة  للوصول  إلى ممدوحه  إذ  لا  يمكن  فصل الفروع عن الاصول  كقوله:

من تغلب الغالبين الناس منصبه       
                                        ومن عدّي أعادي الجبن والبخل

       ان  طول بقائه  وحضوته  الكبير ة  اكثر الحساد  والاعداء بحيث اوغروا قلب سيف الدولة عليه  فجفاه وتغير عليه ولم يترك المتنبي هذه الحالة فشكاها الى سيف الدولة في شعره مرات واستنجد به  منهم  عليهم  ورجاه  عدم سماع الوشايات                                                            
الكاذبه يقول:

      ازل حس الحساد عني بكبتهم 
                                            فانت الذي صيرتهم لي حسدا

       والشاعر المتنبي  معتد  بنفسه ومعتز بها  تجد  ذلك في في اغلب قصائده ومنها  قصيدته الميمية المشهورة والتي انتشرت  على كل لسان  نظمها  في مدح سيف الدولة وفخر بنفسه فيها واشار الى  حساده  واعداءه  فيها يقول  :-

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي          
                                              و أسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملء جفوني عن شواردها         
                                              ويسهر الخلق جراها ويختصم

و جاهل مده في جهله ضحكي  
                                               حتى  أتته   يد   فراسة   وفم

إذا رأيت نيوب الليث بارزة     
                                               فلا  تظنن  أن  الليث   يبتسم

و مهجة مهجتي من هم صاحبها      
                                                أدركته  بجواد  ظهره  حرم

رجلاه في الركض رجل واليدان يد     
                                              وفعله  ما تريد  الكف  والقدم

ومرهف سرت بين الجحفلين به       
                                         حتى ضربت وموج الموت يلتطم

الخيل والليل والبيداء تعرفني  
                                      والسيف والرمح والقرطاس والقلم

        وكان اخر عهده  بسيف الدولة  الحمداني   مجلسه  بمناظرة لغوية  بينه وبين  (ابن خالويه ) النحوي المعروف  الذي  شج وجهه بمفتاح كان معه  بعد غلبة  المتنبي  له  في مجلس للمناظرة كبير حضرن الامير سيف الدولة  . فاجرى  دمه  امام  مرآى ومسمع  سيف الدولة  ولم  يحرك  سيف الدولة  ساكنا . فغضب  المتنبــــــــــي  وتــــــــرك  المجلس  وولى مغادرا حلب سنة \ 346  هجرية   .

      توجه المتنبي الى  دمشق  ثم  الى الفسطاط  بمصر  قاصدا  الاخشيد  بعد  ان اغروه  الاخشيـــــــــديون واطمعوه  بالولاية  ان قدم هو اليهم .   فذهب اليهم  ومدح كافورا الاخشيدي  الذي كان اميرا  على راس الدولة الاخشيدية في مصر فيقــــــــــــــــول :  

قواصد  كافور  توارك غيـــــره    
                                           ومن قصد البحر  استقل السواقيا

فجاءت بنا انسان عين زمانـــه    
                                          وخلت بياضا  خلفها  ومآ قيـــــــا

وظل يمدحه مدة من الزمن  ويشعره في مدحه  بما وعده  به :

أبا المسك ، هل في الكأس فضلٌ أناله 

                                        فإني  أغني  منذ  حين  وتشرب

ويقول  مذكرا اياه  ما وعده ايضا :

وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا      
                                            ودون الذي أملت منك حجاب

وفي النفس حاجات وفيك فطانة       
                                           سكوتي  بيان عندها  وجواب

         لكنه لما يئس  من حصوله على ما يريد .عزم على  السفر فاستاذن الامير كافور في سفر ه  فلم ياذن لــــه  وشدد عليه . الا  انه  استطاع  مغادرة  مصر  خلسة  والناس مشغولون  بافراح عيد الاضحى  المبارك وقال يومها  قصيدته  الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة في هجاء  كافور وحاشيته  والتي كان مطلعها:

عيد بأية حال عدت يا عيد      
                                                بما مضى أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهم
                                                 فليت  دونك  بيدا  دونها بيد

      وفي القصيدة هجوم شديد  على كافور وأهل مصر بما وجد منهم من  إهانة  وحط  من  منزلته  وطعنا  في  شخصيته  ثم   إنه  بعد مغادرته لمصر قال قصيدةً  يصف بها  منازل  طريقه وكيف  أنه  قطع القفار والأودية  المهجورة التي لم يسلكها  أحد  وفي  مطلعها يصف ناقته :

       ألا كل ماشية الخيزلى     
                                             فدى كل ماشية الهيذبى

       وكل  نجاة  بجاوية        
                                       خنوف وما بي حسن المشى

       ضربت بها التيه ضرب القما    
                                                رِإما  لهذا  وإما  لذا

       إذا فزعت قدمتها الجياد           
                                       وبيض السيوف وسمر القنا

وفيها يصف منازل طريقه:

        وجابت بُسيطة جوب الرَّداء    
                                            بين النَّعَام وبين المها

       إلى عُقدة الجوف حتى شَفَت     
                                     بماء الجُرَاوِيّ بعض الصدا

      ولاحَ لها صورٌ والصَّبَاح  
                                      ولاحَ الشَّغور لها والضَّحَى

      وبعد سفره من مصر هجا   كافورا  هجاءا مقذعا  وصـــــب عليه خزي الدهر كله وكذلك  الشعراء  اذا  ما غضبوا هم يفعلون . يقول مخاطبا  الامير كافور الاخشيدي:

امينا واخلافا  وغدرا وخســــــة   
                                          وجبنا .اشخصا لحت لي ام مخازيا

تظن ابتساماتي  رجاءا وغبطـة  
                                           وما انا الا ضاحك من رجائيــــــــا

وتعجبني رجلاك في النعل اننـي  
                                           رايتك ذا نعل  اذا كنت حا فيــــــــا

       توجه  المتنبي بعد هروبه من مصر الى الكوفة  مسقط راسه وفي الكوفة  شارك في   قتال  القرامطة  الذين كان  من دعــــــــــاة مذهبهم  في صباه   ثم قصد بغداد ولبث  فيها  اشهرا  ثم غادرها الى الاحواز  فمدح فيها الامير ابن العميد :


نسيت وما أنسى عتاباً على الصّدّ
                                                 ولا خفراً زادت به حمرة الخدّ

 ومنها هذه الابيات :

يَحيدونَ عن هَزْلِ المُلُوكِ إلى الذي    
                                              تَوَفّرَ مِن بَينِ المُلُوكِ على الجِدِّ

وَمَن يَصْحَبِ اسمَ ابنِ العميدِ محَمّدٍ
                                              يَسِرْ بَينَ أنْيابٍ الأساوِدِ وَالأُسْدِ

يَمُرُّ مِنَ السّمِّ الوَحيِّ بِعَاجِزٍ     
                                               وَيَعْبُرُ  مِنْ  أفواهِهِنّ عَلى دُرْدِ

كَفَانَا الرّبيعُ العِيسَ من بَرَكاتِهِ 
                                         فجاءتْهُ لم تَسمَعْ حُداءً سوَى الرّعدِ

إذا ما استَجَبنَ الماءَ يَعرِضُ نَفْسَهُ
                                             كَرِعْنَ بِسِبْتٍ في إنَاءٍ من الوَرْدِ

كأنّا أرَادَتْ شُكرَنا الأرْضُ عندَهُ
                                              فَلَمْ  يُخْلِنا  جَوٌّ هَبَطْناهُ من رِفدِ

لَنَا مَذْهَبُ العُبّادِ في تَرْكِ غَيرِهِ
                                               وَإتْيَانِهِ  نَبْغي الرّغائِبَ بالزّهْدِ

رَجَوْنَا الذي يَرْجُونَ في كلّ جَنّةٍ
                                              بأرْجانَ حتى ما يَئِسنَا من الخُلْدِ

       ثم تلقى رسائل من عضــــــــد الدولة  يرجوه التوجه اليه فذهب ومدحه  وظل  مدة بمدينة شيراز  ثم استاذن  وغادر  شد رحاله  الى بغداد   يقول بقصيدة  يمدحه ويودعه  فيها ومطلعها  :


فِداً لَكَ مَن يُقَصِّرُ عَن مَداكا                   فَلا مَلِكٌ إِذَن إِلّا فَداكا

 ومنها هذه الابيات :

وَلَو أَنّي اِستَطَعتُ خَفَضتُ طَرفي
                                                 فَلَم أُبصِر بِهِ حَتّى أَراكا
       
وَكَيفَ الصَبرُ عَنكَ وَقَد كَفاني   
                                             نَداكَ المُستَفيضُ وَما كَفاكا
       
أَتَترُكُني وَعَينُ الشَمسِ نَعلي   
                                            فَتَقطَعُ مِشيَتي فيها الشِراكا
       
أَرى أَسَفي وَما سِرنا شَديداً     
                                            فَكَيفَ إِذا غَدا السَيرُ اِبتِراكا
       
وَهَذا الشَوقُ قَبلَ البَينِ سَيفٌ   
                                             فَها أَنا ما ضُرِبتُ وَقَد أَحاكا
       
إِذا التَوديعُ أَعرَضَ قالَ قَلبي    
                                           عَلَيكَ الصَمتُ لا صاحَبتَ فاكا
       
وَلَولا أَنَّ أَكثَرَ ما تَمَنّى           
                                                مُعاوَدَةٌ  لَقُلتُ  وَلا  مُناكا
       
قَدِ اِستَشفَيتَ مِن داءٍ بِداءٍ
                                                وَأَقتَلُ ما أَعَلَّكَ  ما  شَفاكا       

فَأَستُرُ مِنكَ نَجوانا وَأَخفي       
                                              هُموماً قَد أَطَلتُ لَها العِراكا        

إِذا عاصَيتُها كانَت شِداداً
                                                وَإِن طاوَعتُها كانَت رِكاكا       

وَكَم دونَ الثَوِيَّةِ مِن حَزينٍ      
                                                يَقولُ لَهُ  قُدومي  ذا بِذاكا
       
وَمِن عَذبِ الرُضابِ إِذا أَنَخنا    
                                              يُقَبِّلُ  رَحلَ  تُروَكَ وَالوِراكا        

يُحَرِّمُ أَن يَمَسَّ الطيبَ بَعدي     
                                               وَقَد عَبِقَ العَبيرُ بِهِ وَصاكا


       والتقى فيه بمنتصــــــــــف الطريق  في قرية الصافية قـــــرب النعمانية من اعمال واسط  فاتك الاسدى  واعراب من جماعته  وكان المتنبي  قد  هجاه  وجدته وقيل امه وقيل اخته  ووسمها  بالطرطبة :

      ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّةْ
                                      وَأُمَّهُ   الطُرطُبَّةْ
       رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ  
                                      وَباكَوا الأُمَّ غُلُبَّةْ
      فَلا بِمَن ماتَ فَخرٌ
                                   وَلا بِمَن نيكَ رَغبَةْ
       وَإِنَّما قُلتُ ما قُل  
                                    ـتُ رَحمَةً لا مَحَبَّةْ
       وَحيلَةً  لَكَ  حَتّى  
                                   عُذِرتَ لَو كُنتَ تيبَه
     وَما عَلَيكَ مِنَ القَتـ  
                                    ـلِ إِنَّما هِيَ ضَربَةْ
     وَما عَلَيكَ مِنَ الغَد  
                                    رِ إِنَّما   هُوَ  سُبَّةْ

    وما في هذه القصيدة  من الكلام  الفحش  بحيث  نال  من عرضـه ووصمه او صب عليه عار الدهر كله   . فقاتله  فاتك  الاسدي ومعه  اخرين  من جماعته واقاربه  حتى  قتله  وكان معه ولده وغلمانه فقتلوهم  ونهبوا اموالهم   وكان مصرعه  بالقرب ديرالعاقول جنوب بغداد  وكان ذلك في الثامن والعشرين من رمضان المبارك  سنة \354 هجرية   الموافق في يوم 23 \  ايلول سبتمبر  \ 965 ميلادية .

          وفي رواية اخرى كان مقتله في  الثالث والعشرين من آب           ( اغسطس ) سنة 965.

        ابو  الطيـــــــب  المتنبي  شاعر العربية  الاكبر  ولم تنجب الامة العربية شاعرا  مثله  جمع  بين  الشعر والعاطفة  والحكمـــة والخيال  والعلم واللغة والبلاغة  وروحه الشعرية  شذية  فواحة  غلابة  وكانـــــــت عواطفه هي الدم الجاري في جسد  قصائده  فاكسبتها  الحياة  الابديــــــــــة والخلود والروعة  والجمال  والكمال  فهو ذو شاعرية  فريده وهو شاعر العربية  الاول بلا منازع  . و مذهبه الشعري  عجز الشعراء  ان ياتوا بمثلــــه او مجاراته  حتى عد  شاعر العربية الاكبر  فقيل المتنبي (مالئ الدنيا  وشاغل الناس )   واقول ان كان للشعر  امراء فان المتنبي امير الامراء  للشعرالعربي وشعرائه  حقا  واستحقاقا  فديوانه في كل مكتبة  صغيرة اوكبيرة او قل في كــــل بيت و دار واشعاره على كل لسان منذ عرف ولحد الان وسيبقى ذكره شامخا  ولم  يحض  شاعر مثل حضوته  فقد  سار شعره  في  الافاق  مثل اشعة  الشمس  وذلك  يعود  لسببيـن :

 الاول : رعاية  الملوك والامراء  له وعنايتهم  به  وبشعره  الذي  خلدهم  بمدحه .

 والثاني:  قوة شاعريته الرائعة  وتضلعه  في اللغة والادب

       فقد  خاض المتنبى كل فنون الشعر وابدع  فيها  فكان شعــــــره تصوير  الحياة  في عصره  وقد قال الشعر في كل  الاغراض  فاجاد  وابدع  بما قاله  فيها  ومنها  :

المديح  والفخر  -:حيث مدح عددا من  الامراء والقادة  وخص  مدحه  الامير سيف الدولة الحمداني  وهو الاغلب ثم   كافور الاخشيدي  ثم مدح ابن العميد  ثم  عضد الدولة  بشيراز  ومن مدحه لسيف الدولة يقول:

عَـلَى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ    
                                         وتَــأتِي عَـلَى قَـدرِ الكِـرامِ المَكـارِم

وتَعظُـم فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها   
                                        وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ

وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف       
                                             كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم

تمر بك  الأبطال  كَلْمَى  هزيمـةً        
                                              ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى       
                                             إلى قول قومٍ  أنت بالغيب عالم

      اما الوصف  فقد  وصف معارك  سيف الدولة  وقد اشترك الشاعر فيها  مقاتلا  ووصف  الحمى  افضل وصف وفي ديوانه  الكثيرمن الوصف  يقول  في وصف شعب (بوان) عند مروره عليها :

مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني
                                            بمَنْزِلَةِ   الرّبيعِ  منَ الزّمَانِ

وَلَكِنّ   الفَتى العَرَبيّ  فِيهَا              
                                            غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ

مَلاعِبُ  جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا       
                                              سُلَيْمَانٌ  لَسَارَ    بتَرْجُمَانِ

طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى      
                                          خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ

غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا    
                                               على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ

    اما قوله  بالهجاء  فكان قليلا  الا ان هجاؤه كان عنيفا مقذعا  مرا  كما مر بنا من هجاء  كافور او هجاء الطرطبة .

 اما حكمته  وانشاده  شعرالحكمة  ضمن قصائده فكثير كثير  منه :

بذا قضت الأيامُ ما بينَ أهلِها
                                            مصائبُ قوم ٍ عندَ قوم ٍ فوائدُ

      وقوله ايضا :

إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتـَهُ
                                             وإنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ  تمردا

اوقوله :

 وتعظم في عين الصغير صغارها 
                                             وتصغر في عين العظيم العظائم

     اما قوله في الحب والشوق والغزل : فقد تغزل في صباه  وقال اجمل  قصائد الغزل  وكذلك في مقدمات بعض قصائده  .

      اضف الى  ذلك  انه  امام  العربية ومعجمها   حافظا  لاصولهـا ومفرداتها  وتعابيرها و معانيها  وبلاغتها  فجم شعره  فنون شعرية   واهتم بالبديع  والبلاغة  وادخل الفلسفة والحكمة  الــــــــى شعره واكثر منها  فهــــو شاعر حكيم  وحكيم شاعر لا يشق له غبار فهو شاعرالعربية  وامير امرائها  وملك الشعر والشعراء  وكفى .
         
   ومن شعره  في الحب والغزل  اخترت هذه القصيدة  وقد  قالها
 في صباه فابدع :
    
عَذْلُ  العَواذِلِ  حَولَ  قَلبِ    التائِهِ
                                            وَهَوى  الأَحِبَّةِ  مِنهُ   في   سَودائِهِ

يَشكو  المَلامُ  إِلى   اللَوائِمِ     حَرَّهُ
                                            وَيَصُدُّ  حينَ  يَلُمنَ  عَن     بُرَحائِهِ

وَبِمُهجَتي  يا  عاذِلي  المَلِكُ    الَّذي
                                            أَسخَطتُ كُلَّ  الناسِ  في    إِرضائِهِ

إِن  كانَ  قَد  مَلَكَ  القُلوبَ    فَإِنَّهُ
                                           مَلَكَ   الزَمانَ   بِأَرضِهِ      وَسَمائِهِ

الشَمسُ مِن  حُسّادِهِ  وَالنَصرُ    مِن      
                                          قُرَنائِهِ   وَالسَيفُ    مِن      أَسمائِهِ

أَينَ  الثَلاثَةُ   مِن   ثَلاثِ     خِلالِهِ    
                                          مِن    حُسنِهِ    وَإِبائِهِ       وَمَضائِهِ

مَضَتِ  الدُهورُ  وَما  أَتَينَ     بِمِثلِهِ     
                                         وَلَقَد  أَتى  فَعَجَزنَ   عَن      نُظَرائِهِ

القَلبُ   أَعلَمُ   يا   عَذولُ   بِدائِهِ     
                                           وَأَحَقُّ    مِنكَ    بِجَفنِهِ      وَبِمائِهِ

فَوَمَن أُحِبُّ  لَأَعصِيَنَّكَ  في    الهَوى   
                                            قَسَمًا    بِهِ    وَبِحُسنِهِ     وَبَهائِهِ

أَأُحِبُّهُ    وَأُحِبُّ     فيهِ       مَلامَةً      
                                      أ ِنَّ   المَلامَةَ   فيهِ    مِن      أَعدائِهِ

عَجِبَ الوُشاةُ مِنَ  اللُحاةِ  وَقَولِهِمْ     
                                          دَع ما بَراكَ ضَعُفتَ  عَن    إِخفائِهِ

ما   الخِلُّ   إِلّا   مَن   أَوَدُّ     بِقَلبِهِ     
                                          وَأَرى  بِطَرفٍ  لا  يَرى     بِسَوائِهِ

إِنَّ  المُعينَ  عَلى  الصَبابَةِ    بِالأَسى      
                                       أَولى    بِرَحمَةِ     رَبِّها       وَإِخائِهِ

مَهلًا  فَإِنَّ   العَذلَ   مِن     أَسقامِهِ      
                                        وَتَرَفُّقًا   فَالسَمعُ    مِن      أَعضائِهِ

وَهَبِ المَلامَةَ في اللَذاذَةِ    كَالكَرى   
                                             مَطرودَةً      بِسُهادِهِ  ذ  وَبُكائِهِ

لا   تَعذُر   المُشتاقَ   في     أَشواقِهِ      
                                           حَتّى  يَكونَ  حَشاكَ  في    أَحشائِهِ

إِنَّ    القَتيلَ    مُضَرَّجًا    بِدُموعِهِ      
                                            مِثلُ    القَتيلِ    مُضَرَّجًا    بِدِمائِهِ

وَالعِشقُ  كَالمَعشوقِ  يَعذُبُ     قُربُهُ   
                                            لِلمُبتَلى    وَيَنالُ    مِن     حَوبائِهِ

لَو  قُلتَ  لِلدَنِفِ   الحَزينِ     فَدَيتُهُ    
                                            مِمّا      بِهِ      لَأَغَرتَهُ      بِفِدائِهِ

وُقِيَ  الأَميرُ  هَوى   العُيونِ     فَإِنَّهُ   
                                           ما   لا   يَزولُ   بِبَأسِهِ    وَسَخائِهِ

يَستَأسِرُ   البَطَلَ   الكَمِيَّ     بِنَظرَةٍ     
                                        وَيَحولُ    بَينَ    فُؤادِهِ      وَعَزائِهِ

إِنّي   دَعَوتُكَ    لِلنَوائِبِ      دَعوَةً     
                                           لَم  يُدعَ   سامِعُها   إِلى     أَكفائِهِ

فَأَتَيتَ  مِن  فَوقِ  الزَمانِ     وَتَحتِهِ    
                                            مُتَصَلصِلًا      وَأَمامِهِ    وَوَرائِهِ

مَن  لِلسُيوفِ  بِأَن  تَكونَ    سَمِيَّها   
                                           في   أَصلِهِ    وَفِرِندِهِ      وَوَفائِهِ

طُبِعَ  الحَديدُ  فَكانَ  مِن     أَجناسِهِ     
                                        وَعَلِيٌّ    المَطبوعُ     مِن       آبائِهِ





                        *******************   





















الشعر في العصر العباسي الثاني

وأمــرائه




       كان لسيطرة الاتراك على الدولة العباسية وادارتها زمن الخليفة المعتصم بالله وما بعده اثر بالغ في ضعف الدولة وسيرها في طريق الانحلال والتقهقر  فقد  عمل الرشيد على تقوية دولته – كما توقع - فتزوج  من  زوجة  فارسية  ليقرب الفرس منه  ويأمن  جانبهم  لانهم سيكونون اخوال اولاده  منها  وهم  كثير في دولته  اذ  يشكلون الجزء الشرقي منها ولاجل ان يتخذهم انصارا له , وتزوج من اخرى تركية ليقرب الاتراك منه وليشدوا على عضده  في  صيانة  دولته  ويكونوا حصنا منيعا  لدولته  ضد الروم  شمال دولته  , وكانوا  كذلك  في زمنه .  فانجب من زوجته  ابنة عمه ( زبيدة)  ابنه  (الا مين)  ومن  زوجته الفارسية ابنه ( المأمون ) ومن زوجته التركية ابنه ( المعتصم ) وكان هذا الفعل  فيما بعد سببا من اسباب سقوط الخلافة العباسية . وسبب هذا الزواج كان الرشيد يقصد به توطيد العلاقة  بين العرب والفرس والترك  كنتيجة للمصاهرة  والقرابة الا ان ما اثمره هذا التصاهر كان وبالا على الحياة السياسية الى حد الاقتتال  .

         بعد وفاة الرشيد اقتتل الامين والمامون الاخوة بينهم على سدة الحكم  واستعان كل  منهم  باخواله والمقربين  منه  فاستعان الما مون باخواله الفرس على اخيه  الامين  في  قتاله  والوصول  الى الخلافة  وحقق ما اراد  وقربهم اليه  واعتمد عليهم في كل امورالدولة  وانعكس ذلك حتى في الامورالدينية والمذهبية وتفرق الخلق واقتتل الناس بينهم  فكان ماكان و كتب التاريخ متخمة بهذه الامور فهي خير شاهد على ذلك وما فيها من معارك واحداث  .
   
        وبعدها  أي بعد وفاة الامين والمامون استخلف المعتصم  وامه تركية فقرب اليه الاتراك  واعتمد عليهم في اغلب مفاصل الدولة العربية الاسلامية  وعلى كل حال  فقد دخل الى  جسم الدولة او جسم الخلافة العربية من ليس منها  وعمل على تقويضها . كان كل هذا قد حدث في العصر العباسي  الاول  واستمر وزاد في العصر العباسي الثاني.     
                          
          وكان في اثناء وجود الاتراك  في الحكم كان الفرس  يتحينون  الفرص لاعادة مجدهم الغابر او السالف  فقاموا  بقيادة  ال بويه  بحملة قوية  اعلنوا سيطرتهم على بلاد خراسان واكتسحوا الخلافة العباسية   في بغداد  التي كان الاتراك  مهيمنين على الحكم فيها  وتنصب معز الدولة الفارسي اميرا على بغداد في ظل الخلافة العباسية التي لم يبق منها الا  اسمها  ورسمها. اماالخلفاء العباسيون فقد تحولوا الى بيادق شطرنج يلعب بهم اللاعبون من ال بويه من الفرس ومن بعدهم   ال سلجوق من الترك.

       نعم  لقد  انحدرت  قوة وعظمة  الدولة العباسية او بدأت بالانحدار نحو الاسوء  بعد  الخلفاء  الاشداء  فيها مثل  المنصور والرشيد ...      و سيطر البويهيون  على الحكم الاسلامي في بغداد  سنة \334 هجرية
بعد ضعف سيطرة الاتراك عليها وان اغلب هؤلاء الامراء كانوا ضعافا في ادارتهم للدولة فسارت الدولة نحو الانهيار والتقهقر والانحلال  ويعتبر إقدام القادة الأتراك على قتل الخليفة المتوكل على الله في الخامس عشر من شهر شوال سنة \ 247 هـجرية  بداية العصر العباسي الثاني سياسيا  اذ  فيه استبد القادة الاتراك  بالسلطة  وأصبح الخليفة طوع إرادتهم وأسير هواهم  وقد عبر عن ذلك احد الشعراء  فقال:

       خليفـــة   فـــي   قفــص
                                    بيـن    وصيـف    وبغـا

       يقــول  مـــا  قــالا   لـه
                                    كمــــا    تقول     الببغا

        وأدى ذلك الى ظهور استقلال او انفصال بعض الامارات  عن الخلافة  العباسية  في  بغداد  فبعد  ان  كانت  خلافة  اسلامية  واحدة .  اصبحت الخلافة   في بغداد  وامارات مستقلة عنها  في الاقاليم  التابعة لها  كالامارة الاخشيدية في مصر التي قامت على اثر انقراضها  الدولة الفاطمية التي استقلت عن الخلافة العباسية في بغداد بل نازعتها الخلافة وامتدت اجنحة  حكمها شرقا وغربا  وكذاك ظهرت امارات عديدة  كالامارة الحمدانية في حلب ثم  توسعت فشملت الشام كله تقريبا  الا انها بقيت  معترفة  بالسلطان  العباسي  عليها ولو اسما فقط . وكذلك  مثلها  
ا مارات  قد نشات في الثغور الشرقية للبلاد الاسلامية  وهكذا تفرقت الدولة الاسلامية الموحدة وظهرت خلافات وامارات في البلاد نازعت الخلافة الاصلية  في كل امورها وخاصة الثقافية  والادبية .

        كان  هؤلاء خلفاء وامراء  هذه الاقاليم قد جمعوا حولهم الشعراء والادباء والعلماء ورجا ل الثقافة والعلم  وتباروا فيما بينهم  حول جمع كل منهم العدد الاكبر من هؤلاء , وبذلوا الاموال لهم منافسة بينهم فاثر هذا في ازدهار كل العلوم  وعلى راسها  الادب  العربي  وخاصة الشعر حيث كثرت فنونه  وارتفعت رايته  وارتقت  خيالاته وفنونه . الا ان اللغة العربية بدأت تظهر عليها علائم الضعف في نهاية العصر ويكتنفها  الوهن  خاصة في الثغور الشرقية من الدولة الاسلامية  لعجمية سكانها  فبدات تحل مكانها اللغات المحلية او اللغة الاصلية لاهل  تلك  البلاد مثل اللغة الفارسية التي حلت محل اللغة العربية بعد قرنين من الزمن ودفعت الحالة الثقافية والاجتماعية  شعراءهم  الى النظم في لغتهم  الفارسية كما فعل الشاعران عمر الخيا م  وسعدي الشيرازي  .

       وكذلك  ظهرت في البلاد الاسلامية عصبيات اشتد النزاع  بينها ومذاهب دينية تقاسمت البلاد الاسلامية بينها كما اطلقت الحكومات الاسلامية  العنا ن لليهود  والنصارى  للعمل  كيفما  يشاؤون   وكذلك اختلفت  وجوه المعاش وكسب  الرزق او الحالة الاجتماعية  والاقتصادية  في البلاد وانقسم الشعب بين غني مترف وفقير جائع .

        فالقسم  الاول  وهو  الامراء والقادة والتجار  واصحاب الاموال والاعمال عاشوا بترف غير معقول في كل امورهم  في الملبس والمسكن  وهم طبقات الخلفاء  والامراء والشعراء المقربين والاغنياء .

         واما السواد الاعظم من الشعب  وهم الفقراء في المجتمع فهم راسفون في  قيود من فقر مدقع وعيش ذليل  وكسب قليل لا يسد اودهم لا يغنيهم  ولا يسمنهم  من جوع  وقد انعكست كل هذه الاحوال على الادب والشعر في البلاد فكان ادب الاغنياء يتمثل بوصف القصور  الفخمة والرياض الزاهرة ووانتشار الغزل والغناء   والخمرة  واللهو  والترف  و القسم الاخر  يتسم بالشكوى والحنين والبكاء وذم الزمن  وصروف الدهر.

      اجتمع الشعراء حول  الخلفاء والامراء واصحاب النفوذ والجاه  كما اسلفت فانتشرت الثقافة في هذا العصر امتدادا لثقافة العصر العباسي الاول  والتي آ تت اكلها  في هذا  العصر فنمت  في  ذاك  و اثمرت او اينعت  في هذا  وكذلك  كان لصناعة  الورق  اثر عظيم في  انتشار الثقافة  ككل  ونشوء المكتبات العامة والخاصة  والمدارس النظامية الحكومية  بجانب المدارس الخاصة  والتعليم الفردي  لابناء الخلفاء و الوزراء والامراء... فكان  لكل هذا اثر عظيم في تقدم الثقافة ووصولها الى اوج عظمتها في  الدولة الاسلامية  وتقدم الشعر واتساع افاقه واخيلته وتحسين  معانيه  فازدهر في هذا العصر  اكثر من  باقي العصور العربية  وبلغ  شأفته  وظهر فحول من الشعراء كالمتنبي  وابي العلاء المعري والحمداني وابن النبيه  والشريف الرضي  وغيرهم ..

      لذا يمكننا ان نقول ان هذا العصر هو العصر الذهبي للشعر العربي
 بما اوتي  فيه من نتاج وتجديد ورقة في النظم  والالفة في القول .

     ولما استولى البويهيون على السلطة بعد الأتراك  انتهجوا  نهجهم  فكان الأمير البويهي يولي الخلافة من يشاء من اولاد الخلفاء العباسيين  ويخلعها  ممن  يشاء  وكثرالخلع  . و كثيرا ما يتم بالذل والهوان.  حتى كان  يوم  خلع الخليفة  يوم ابتهاج عند الجند  وفيه يجري نهب دار الخلافة وفيه يطالب الجند الخليفة الجديد برسم ( بيعته). وكان يجري على الخليفة المخلوع نفقة قد لا تكفيه, فيضطر إلى العيش  بالكفاف  واستعطاف الناس.

      وكذلك  الوزراء  فلم يكن حال الوزراء بأفضل من حال الخلفاء  فكان الوزير يأتمر بأمر المتغلبين  فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله  وربما يقتلونه وكثيرا ما كان الوزير يُنصب ثم يُعزل, ويتكرر نصبه وعزله  مرات عديدة وغالبا ما كان ينتهي عزله بمصادرة امواله  ومن ثم  قتله ومع ذلك فإن الكثيرين  كانوا  يطمعون  في تولي الوزارة, ويبذلون المال في شتى المجالات  في  سبيل  توزيرهم. كما هو الحال  لدينا  حيث أن الوزارة كانت موردا للثراء الفاحش عن طريق الرشاوى  وقيل أن محمد بن عبيد الله بن خاقان وزير الخليفة المعتضد بالله  كان  يأخذ الرشوة من كل طالب وظيفة  وربما عين للوظيفة الواحدة عددا من الموظفين  وقيل إنه عين في يوم واحد  تسعة عشر ناظرا للكوفة  وأخذ من كل واحد  منهم  رشوة معينة .  الا ان بعض الوزراء  كان  حسن السياسة  والتدبير ذا دهاء وذكاء  يستطيع أن ينال من الخليفة أو الأمير البويهي تفويضا بتصريف أمور الدولة  وكان أهم هذه الامور  ضمان الخراج  وتعيين الولاة  والعمال  والقضاة  والكتاب , لذا يكون للوزير على من يوليه جبايات يجني منها ربحا وفيرا  ويثري به ثراء ا فاحشا. و من أجل ذلك كانت الوزارة هدفا  للدسائس والحسد . وكثر الطامعون  في منصب الوزارة,  فإذا  أفلح  الدس  وتغلب  اهله على الوزير عزل  هذا  الوزير وصودرت أمواله  وكان ما يصادر يعد بآلاف الآلاف من الدنانير لذا كان بعض الوزراء  يطمرون  خزينهم من الاموال  والنقد  تحت الارض  الى أن تنتهي الازمة و قيل في ذلك:

إذا أبصرت  فـي خلع  وزير  
                                         فقل أبشر بقاصمة  الظهور

بأيام   طـوال  فــي   بـلاء
                                         وأيام   قصار  في  سـرور

      وكان العرب –  ولا يزالون –  يتكنـّون - وهي عادة عربية قديمة  -  بأسماء  أكبر أبنائهم  فيقال  ابو فلان  مثلا  وكان  الخلفاء  يتلقبون ب(أمير المؤمنين)  منذ  عهد الخلفاء الراشدين في زمن عمر بن الخطاب وما بعده  وكذلك  خلفاء  بني امية .

        وعندما  انتقلت الخلافة إلى بني العباس أضافوا إلى هذا اللقب ألقابا  اخرى  تدل على صفة  يتميز بها الخليفة. فقد عرف عبد الله أبو العباس وهو  أول خليفة عباسي  بلقب (السفاح) وتلقب أخوه الخليفة  عبد الله أبو جعفر بلقب (المنصور) وتلقب ابنه الخليفة  محمد  بلقب (المهدي) وتلقب  الخليفة  موسى بلقب (الهادي)  والخليفة  هارون بلقب (الرشيد). ولقب الرشيد أولاده الثلاثة: محمد وعبد الله والقاسم بلقب محمد (الأمين)  وعبد الله (المأمون)  والقاسم (المؤتمن). وهكذا جرت  العادة  في تلقيب الخلفاء  واولادهم .

     ولما استبد القادة  الأتراك  بالسلطة فرضوا  على الخليفة  ان يطلق  لقب على من بيده السلطة منهم فلقب ( أمير الأمراء)  ولما  جاء من بعدهم  البويهيون  الزموا الخليفة العباسي ان  يطلق  عليهم  ألقابا فيها معنى الاعتراف بسلطانهم  فلقب  أحمد بن بويه بلقب (معز الدولة ) ولقب أخوه علي  بلقب (عماد الدولة) ولقب أخوه الحسن بلقب (ركن الدولة), وهكذا كثرت  الالقاب  في الدولة  كعضد الدولة وجلال الدولة وبهاء  الدولة  وفخر الدولة.  حتى ان  منهم  من  لقب ( السلطان ) ا و     ( شاهنشاه ) أي ملك الملوك  ثم سرت هذه الحالة  في امراء الدويلات   المستقلة  .وهكذا كثرت  الكنى والألقاب  في العصر العباسي  الثاني  ويقول احدهم  في ذلك شعرا :

أما رأيت بني العباس قد فتحوا
                                         من الكنى ومـن الألقاب أبوابا

ولقبوا رجـلا لو عاش أولهم
                                        ما كان يرضى به للقصر بوابا

قـل الدار هم  في كفي خليفتنا
                                          هذا فأنفـق في الأقـوام ألقابا


        وقد نهج الخلفاء الفاطميون نهج الخلفاء العباسيين في الألقاب  فكان منها المهدي  بالله والعزيز  بالله والمعتز  بالله والحاكم  بأمر الله والمستنصر بالله, وفي  الأندلس ايضا تسمى عبد الرحمن الثالث  بن محمد بالخليفة واتخذ لنفسه لقب الناصر لدين الله ونهج  من جاء بعده  نهجه  فكان منهم : المؤيد بالله  والمستعين بالله  والمستظهر بالله  والمعتمد على الله. واتخذ ملوك الطوائف في الأندلس الألقاب فكان منهم المعتضد بالله ملك أشبيلية وابنه المعتمد على الله وكانت هذه الألقاب على فخامتها لا تمثل لمن اتخذها لنفسه شيئا من معانيها .  

         وظهرت  في هذا العصر  الفتن المذهبية فثارت بين الشيعة وبين السنة, وخاصة الحنابلة منهم, فتن كان مسرحها بغداد . وقد بدأت في أوائل القرن الرابع الهجري وامتدت إلى أواخر القرن الخامس الهجري وكانت تتوالى الفتن عاما بعد عام, وكثيرا ما كانت تشتد, فينشب فيها قتال مرير بين ابناء البلد الواحد  والمدينة الواحدة .
 
      وقد  أزر البويهيون  الشيعة في  تشيعهم, وشد الأتراك أزر أهل السنة لأخذهم بمذهبهم  وقد افضت هذه الى اشتداد العداء  بينهم الى حد المقاتلة  فقتل  خلق كثير من الطرفين جراء اشتداء الطائفية    .

     وكذلك كانت الفتن تحدث  بين الحنابلة والأشاعرة  وبين الحنفية والشافعية, فكان أهل كل مذهب يتعصبون لمذهبهم  ويدفعهم التعصب إلى القتال فيما بينهم  مما اثر في خراب المدن واضعاف شوكة المسلمين وقوتهم   وكانت  بغداد مسرحا  لمثل هذه الامور والاحداث والتاريخ  يعيد نفسه  وقد كانت هذه وغيرها  اسبابا  لنشوب  ثورات كثيرة  في  البلاد الاسلامية   مثل  ثورة الزنج  وثورة القرامطة  وكذلك ادى الى انفصال  بعض الاقاليم عن جسم الدولة العباسية واقامة  اقاليم  وامارات في البلاد وخاصة البعيدة عن الخلافة  وربما  خلافات  جديدة  مستقلة عن الخلافة  العباسية . مثل الدولة  الاخشيدية  والخلافة  الفاطمية  والامارة الحمدانية  والدولة  الصفارية . 

       فوجود  الدويلات  والامارات  وخاصة  غير العربية  المنسلخة عن جسم الدولة العباسية  ضمت بين  اهدافها هذه الامور.ثم  كانت هذه الانقسامات  سببا واسعا  وكبيرا لقيام  الحروب الصليبية وطمع الدول الاوربية تحت علامة الصليب في القضاء  على الدولة الاسلامية  او الاستحواذ  على  بعض  اجزائها  المقدسة  لديهم  وخاصة ( فلسطين)  وفي  صفحات التاريخ  الشيء  الكثير الكثير  والشواهد  القائمة  على  ما  ذكرناه .
   
           وكان لهذه التطورات السياسية  اثرعظيم على الشعر العربي  وتقدمه وازدهاره  فقد  كانت بغداد ام الدنيا  ومركزالخلافة  العربية الاسلامية  ومركز الثقافة والعلوم  وفيها جل الشعراء  الا  انه ظهرت  مدن اخرى اجتمع فيها الشعراء  هي  مراكز الا مارات  كحلب والقاهرة وجرجان وبخارى وسمرقند والاندلس واماراتها  وغيرها و كل امير من امراء هذه الامارات حاول ان يجمع حوله العديد من الشعراء والادباء والمثقفين  ويتباهى في جمع اكبر عدد منهم لحبهم الادب وخاصة الشعر  وليمدحونهم ويذكرونهم في شعرهم  فادى هذا التنافس  حتما والى ايجاد امور دفعت الشعر نحو علائم التقدم والرقي الثقافي والحضاري في كل مجالات الحياة .

           لذلك فقد اجزل الخلفاء والامراء العطاء للشعراء الذين نالوا حضوة كبيرة عندهم  حتى بلغ بهم حد الاستيزار  ورئا سات الدواوين الكتابية  وخاصة اذا علمنا ان بعض الا مراء والخلفاء كانوا يجيدون  نظم الشعر  وقرضه ونقده .

        و كان لتشجيع الخلفاء والامراء  للادب والشعر والثقافة عموما  الاثر الابلغ  في تقدم الشعر وتطوره فقد كانت الثقافة في العصرالعباسي  الاول  قد شهدت تقدما كبيرا  وسمت  نحو التقدم والرقي سموا عظيما  فاتت هذه الثقافة اكلها  في العصر العباسي الثاني اي في هذا  العصر  حتى  بلغت اوج عظمتها  من التقدم والرقي .والحضارة في كل المجالا ت  الثقافية  فتطورت الاداب وتنورت العقول  وخاصة الشعر.  فتحسـنت اساليبه  وسهلت مفرداته و كثرت معانيه  وشمخت  اخيلته  وازدادت فنونه واغراضه لتشمل كل امور الحياة ومتطلباتها .
  
      وكان لنشوء المكتبات العامة اوالخاصة وايجاد المواقع الدراسية بحيث  اصبح التحصيل العلمي والادبي ابوابه مفتوحة  للدارسين  واثره واسع  في ذلك . فقد انكب الناس  وبالاخص الشعراء  على المطالعة  والتدارس ومحاولة الايتاء بما هو ارق و افضل وادق  فزاد هذا في تفتق افاق الشعر واخيلة الشعراء وكذلك فتحت مدارس  نظامية  درس بها الطلاب  الادب والشعر وفنونه وعلوم اللغة العربية مثل النحو والبلاغة والصرف والعلوم الصرفة والفلسفة والرياضيات والهندسة  والبناء والري وفي كل  امورالحياة  وكانت هذه من اسباب تطور الشعر ودفعه نحو التقدم والرقي والاكتمال  والعظمة فظهر شعراء  فحول لم تسبقهم سابقة مثل المتنبي و المعري وغيرهم كثير..

     الحالة الاجتماعية والمعاشية  في هذا العصر اختلفت  عما كانت عليه في العصر السابق فقد  ادى ضعف  الخلفاء  العرب في هذا العصر الى ظهور العصبيات - التي كانت  مكبوتة  في العصور السابقة اوالتي كانت تعمل في الخفاء - على نطاق واسع  ودون تخوف من احد  او  ردع  من  رادع  و اصبح لكل  قومية  جماعتها  التي  يناصرونها  ويؤيدونها  ولها  رجالها  وشعراؤها  وانتشر الانحلال الجتماعي   وعم الضعف  كل  مفاصل  الخلافة  العباسية  وتدهورت  الحالة  السياسية وتبعتها بقية الامور .

       وكذلك انقسمت الدولة الاسلامية الى مذاهب دينية عديدة وشاعت الفرقة والتباغض بين المسلمين او قل بين اتباع مذهب واخر حتى وصل في نهاية الامر حد الاقتتال  والتخريب  بين المسلمين يقتل بعضهم بعضا  ويخرب  ممتلكات البعض الاخر ويسفه اراءه .

         اما  غيرالمسلمين من الطوائف والاديان  الاخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية وما اليها  فقد اطلقت الحريات لهم يعملون ما يشاؤون ويؤدون شعائرهم ومعتقداتهم  بحرية تامة  وربما عاونهم ضعاف العقيدة  من بعض المسلمين على اداء هذه الشعائر وقد حضر بعض الخلفاء العباسيين بعض شعائرهم واعيادهم مرغمين .؟

    وكان لاختلاف  هذه العصبيا ت والمذاهب وتنازعها  اثره البالغ على الشعر فظهر شعراء غير مسلمين  وغير عرب  وخاصة الفرس  وهم كانوا اصحاب حضارة  فتمجدوا بديانتهم القديمة او بفارسيتهم .

       اما اختلاف طرق المعيشة فقد انقسم الناس في معيشتهم ومعاشهم الى طبقات  عديدة فمنهم طبقة الخلفاء والامراء والمترفين الذين اوغلوا  في الاسراف والتبذير والغلو الفاحش فانكب  اغلبهم على اللهو والمجون والصخب وعاشوا حياة  مترفة مبتذلة بين شرب الخمرة واقتناء  الجواري الحسان  والغلمان والولدان الذكور .

        وقسم اخر دون ذلك  وهو طبقات التجار واصحاب المهن والحرف فكان التجار يجلبون البضائع والمواد من الهند والصين ومن شرق البلاد وغربها واواسط اسيا  وهؤلاء في اكثر الاحيان كانت  تنهب الحكومات اموالهم بحجة الضرائب او المصادرة  مما  ادى بهم ان يتظاهر اغلبهم  بالفقر والعوز وما هم بفقراء ولا معوزين .

     اما الاقسم الاخر فهم السواد الاعظم من الشعب فقد كانوا يعيشون في حالة من البؤس والفاقة  والحرمان  عظيمة ويمثلها قول السري الرفاء واصفا حاله  حيث يقول:.

      وكانت الابرة فيما مضى      صائنة  وجهي واشعاري
      فاصبح الرزق بها ضيقا      كانه  من   ثقبها  جاري

       وقد رسم لنا الشعر الصور  الواضحة والجلية لكل هذه الاحداث فقد كان مرآة  صقيلة صافية  تعكس كل ما في البلاد من احداث وكل ما في المجتمع من امور .

        لقد  كا ن  الشعر سجلا حاضرا  حافلا يسجل كل  كبيرة وصغيرة  فالشعراء هم ابناء الامة  وابناء  البلد  ومن شتى طبقاته  الاجتماعية المختلفة  . وكل  يصور حالته  والحالة  التي يعيش   فيها امثاله . فهو صورة حية  للواقع المعاش  يمثل الحقيقة الواقعة  فعلا الا ما ندر .

   انعكست هذه الامور على اللغة العربية ايضاوالتي بدأت تنحسر عن بعض المناطق التي انتشرت فيها  وخاصة في  الشرق  . وهكذا غربت  شمس اللغة العربية عن مناطق كثيرة كانت قد اشرقت عليها  وانارتها  بنور القران الكريم والاسلام ونور الثقافة والعلم والادب والمعرفة .

      لقد  ظلت اللغة العربية  لغة الدين  والثقافة  والعلم  والادب  والدولة  طوال هذ العصر والعصور التي قبله وهي في اتساع وامتداد حتى وصلت فرنسا وشواطيء  البحر المتوسط  وجزره مثل  صقلية ومالطة  وحول  بحر الادرياتيك .ووصلت الى اواسط  افريقيا والى الهند والصين  وانشات  مدنا  وعواصم  للعربية فيها مثل  بخارى وسمرقند , فاينما توجه العرب  نشروا الاسلام دينا والعربية لغة.  الا ان استقلال  بعض الامارات عن الخلافة في هذا العصر وفي قرنه الثاني وما بعده و تاميرها  بامراء غير عرب  وخاصة الامارات الشرقية  جعلتهم  يتعصبون  للغاتهم الاصلية وا خص الفارسية  حيث شجعوا  تلك اللغة التي  كانت عاجزة من ان تقوم  بها  الاعمال الادبية او العلمية خلال قرون من بعد الفتح العربي  الاسلامي لبلادهم . فقد تطورت في تلك الامارات وحلت اللغات المحلية محل اللغة العربية  وظهر فيها شعراء وادباء  وعلماء  دونوا  بهذه اللغات المحلية  مؤلفاتهم وقصائدهم  مثل عمر الخيام و سعدي الشيرازي 

       وهكذا  ضعفت  اللغة العربية  في هذه الاصقاع  وانكمشت  كلما
 تقدم الزمن  وبقيت لغة  الدين فيها  فقط  وقد  تحرج  علماء  اللغة  من الاستشهاد  باقوال الادباء والشعراء  في هذا العصر  والعصور التالية  خشية الوقوع  في الخطأ اللغوي  وانحسر الاستشهاد  بما قيل قبل هذا العصر.

     اما في الجها ت الغربية من الدولة الاسلامية في الشام  ومصر  وشمال افريقيا ووسطها  وبلاد الاندلس فقد بقيت اللغة العربية فيها  قوية وهي لغة  التخاطب  والدين والعلم والادب  لان اغلب الشعب في هذه الاقاليم من اصل عربي  لذا حافظ  على عروبته  فيها وخاصة اللغة . وحرص  الخلفاء  والامراء  في هذه الدول  والامارات  فيها  على  تقدم اللغة العربية والحفاظ عليها  فتقدمت .

     اما في بلاد الاندلس فقد انحسرت اللغة العربية بمرور الزمن وحلت محلها لغة البلاد الاصليين بعد ان تم طرد العرب منها بعد ظهور دويلات الامارات التي  كانت وبالا على الحكم العربي  في هذه البلاد . فقد  تقاتل الامراء العرب فيما بينهم في بلاد الاندلس  فادى ذلك الى ضعفهم  نتيجة  التناحر والتقاتـل  فيما بيـن هذه الدويـلات.هذه المقاتلـة الطويلة  الامـد   و كانت سببا في ضياع  بلاد  الاندلس من ايديهم  ومن ثم طردهم منها حتى عذ ّب العرب والمسلمين  اشد انواع  العذاب  وخير دليل على  ذلك قيام المحاكم الغاشمة( محاكم التفتيش ) في هذه البلاد  لقتلهم وطرهم منها.   

      مما لا شك فيه ان الشعر يمثل حياة الانسان في المجتمع ويصورها افضل  تصوير فمن  يطلع على  شعر حقبة زمنية معينة يستطيع  معرفة الكثيرعن احوال هذا المجتمع في تلك الحقبة الزمنية .
  
       واول هذه الفنون والاقرب الى نفوس  الخلفاء والامراء والقادة  هو الفخر و المديح فقد بلغ من التوسع شاءوا  كبيرا  وعظيما  واتسعت آفاقه  وكان  من  اهم اسباب تقدمه  ورقيه  واتساع  مفاهيمه  ودقة اساليبه تقريب الخلفاء والامراء  للشعراء  اليهم  وكثرة  وجود  العديد  من العواصم والمدن التي  يتواجد فيها الامراء ومحاولة كل منهم ان  يجمع  اكبر عدد من الادباء  الشعراء  والعلماء  في  مجلسه  ليكون افضل من مجالس الاخرين . وبذخهم المال على هذه المجالس  ومنح  الهبات  والعطايا  السنية  للشعراء وغيرهم ومنهم من امّل الشعراء بالامارة كما فعل الاخشيد مع المتنبي  ومنهم من اهدى الشعراء الضياع والجواري الحسان اضافة الى المال الكثير فكانت هذه اسباب ازدياد  الشعراء  وتهافتهم على هذه المجالس  فكثر  المدح  والفخر والغلو فيهما .

      وقد تميز المدح  في هذا العصر بالاطراء  والمبالغة  كما في وصف المعارك والامراء وهم  يقاتلون وينافحون عن البلاد وكذلك مدح الامراء والقادة  والشجعان من المقاتلين و ذكرت تلك الانتصارات التي حققوها في هذ ا العصر  كما  فعل  المتنبي  والشريف الرضي وابن الهبارية  وابن مطروح  وابن النبيه وغيرهم .

     يقول المتنبي في  مد ح سيف الدولة الحمداني :

  رايتك محض العلم  في محض قدرة
                                  ولو شئت كان الحلم  منك   المهند ا

  وما قتل  الاحرار   كالعفو   عنهم
                                 من    لك  بالحر   الذي  يحفظ   اليدا

  اذا انت  اكرمت  الكريم   ملكته 
                                     وان انت  اكرمت   اللئيم   تمر دا

 ولكن تفوق الناس  رأ يا    وحكمة
                               كما  فقتهم    حالا   ونفسا      ومحتدا

       والغزل  من ارق الفنون اوالاغراض الشعرية واحبها الى النفس البشرية  لذ ا توسعت  وتشعبت  وظهرت فيه  عدة  فنون  جديدة  تكاد تكون فنونا مستقلة , منها الغزل التقليدي  والغزل بالمذكر والغزل الخليع وغزل الحب الصادق والالم والحسرة والغرام والشكوى والوله القاتل  وما يحس به الشاعر الواله  او العاشق  وكذلك  الغزل الصوفي  الذي  يعتبر امتدادا  لشعر الزهد  حيث نشأ  بالعراق  ثم  انتقل  الى  مواطن اخرى  ومن اهم  شعراء التصوف : القشيري وابن الفارض  وابن عربي  والحلاج  ورابعة العدوية  والشيخ عبد القادر الكيلاني والسهروردي

 لاحظ الشيخ عبد القادرالكيلاني يقول:


مافي الصبابة منهل مستعـــــــــــذب
                                         الا ولي فيه الالذ الاطيــــــــب

اوفي الوصال مكانة مخصوصــــــة
                                          الا اومنزلتي اعز واقـــــــرب

وهبت لي الايام ر ونق صفوهـــــــا
                                          فغلا مناهلها وطاب المشرب

اضحت جيوش الحب تحت مشيئتي
                                        طوعا ومهما رمته لايغـــــرب

 .

         اما الشعر الفلسفي فقد نشأ في الشام  او يكاد  ان يكون هكذا  ومنها تسرب .وممن  اقحم الفلسفة في الشعر ابو العلاء المعري  وابن سينا  والرازي  وغيرهم  وكانت روح العصر تتطلب ايجاد مثل هذه الفنون .
 وتعجبني هذه الابيات  للمعري :

 اذا رجع الحصيف الى  حجاه
                                         تهاون بالشرائع   وازدراها

  فخذ منها  بما  اتاك    لب
                                       ولا يغمسك  جهل في  صراها

وهت اديانهم  من  كل  وجه
                                       فهل  عقل  يشد   به   عراها

       وكذلك  توسع فن الوصف  واتسعت  معالمه  ومجالات  القول فيه           فقد وصف الشعراء  المعارك الحامية التي دارت بين المسلمين والاقوام الاخرى  ووصفوا البلدان التي فتحت على ايديهم كما وصفوا بل وا كثروا من وصف الطبيعة ومناظرها الرائعة الخلابة ومظاهرها وجمالها الساحر  ووصفوا  مجالس الخمرة  ومجالس الغناء ووصفوا النساء المشاركات فيها  وهن  يرقصن  ويغنين  ووصفوا  الرياض  والقصور  والعمران   والزهور  في الحدائق  و تفتقت  اخيلتهم في  هذه الوصوف  وظهرت المقدرة لدي العديد من الشعراء مثل  الصنوبري الذي اختص في وصف الطبيعة  والوءواء  الدمشقي والحمداني  والمتنبي في وصف المعارك
     يقول الصنوبري في وصف زهرة شقائق  النعمان :

           كأن  محمر  الشقيق   
                                      اذا  تصوب  او تصعد

         اعلام  ياقوت  نشرن    
                                     على بساط  من زبرجد

          وظهر  كذلك فن  التشكي من الزمن  ومن الاحداث الاجتماعية  وكان موجودا كشذرات في قصائد الشعراء  الا انه في هذا  العصر  ظهر كفن  جديد  ويتميز بذكر الحوادث  والاحدات التاريخية  ونقد  المجتمع نقدا تحليليا والشكوى من  مصائبه واحداثه وهي كثير .
 لاحظ قول ابي العلاء  المعري  فيه :

   دنياك دار  شرور لا سرور بها
                                   وليس يدري  اخوها  كيف يحترس

  بينا امرؤ يتوقى الذئب عن عرض
                                 اتاه   ليث   على   العلات   يفترس 

 الا ترى هرمي مصر  وان شمخا
                                 كلاهما  يبقين     سوف     يندرس

        واصاب الهجاء في هذا العصر  بعض التوسع و كان من اسبابه التنافس بين الشعراء حول الحضوة لدى الامراء  والخلفاء. وتميز هذا العصر بالاسراف في القول البذيء والنيل  من الاعراض مما يذكرني بهجاء الحطيئة في العصرين الجاهلي وصدرالاسلام  او شعر النقائض بين  جرير والاخطل  او الفرزدق  .

        ومن اشهر شعراء الهجاء المتنبي  وابن الصياد  وما  هجاء ابي الطيب في كافور الاخشيدي عنا  ببعيد , بعد ان مناه  وامله ثم نكث وعوده  فصب  المتنبي عليه  غضب الدهر  ولعنة  الزمن  على مدى الدهور والازمنة  وجعله  اضحوكة  للاخرين  يقول :


كلما  اغتال  عبد السوء  سيده
                                      او خانه  فله في  مصر   تمهيد

  نامت نواطير مصر عن ثعالبها
                                   فقد بشمن  وما تفنى       العناقيد

 العبد ليس  صالح   باخ
                                   لو انه  في    ثياب   الحر   مولود

لا  تشتري العبد  الا  والعصا معه
                                    ان   العبيد   لانجاس        مناكيد

 ما  كنت  احسبني ابقى الى  زمن
                                   يسيء  بي  فيه  كلب  وهو محمود

ولا توهمت ان الناس قد فقدوا
                                 وان  مثل     ابي البيضاء    موجود

 او قوله فيه :

 أمينا  واخلافا  وغدرا  وخسة ؟؟
                                      اشخصا  لحت  لي  ام مخازيا ؟؟

    وكذلك  كثرت  الاخوانيات  بما فيها  المعاتبة بين الشعراء  او غيرهم  كقول ابي  فراس الحمداني  معاتبا :

     لم  اؤاخذك  بالجفاء  لاني
                                      واثق منك  بالوفاء الصحيح

     فجميل  العدو غير جميل
                                    وقبيح   الصديق   غير  قبيح

    
      وكذلك الحكمة  والامثال  وان كانت  موجودة  في الشعر العربي  منذ عصر الجاهلية  وافضل من قال  فيها  واكثر المتنبي  والمعري  فالمتنبي يقول :

   على قدر اهل العزم تأتي العزائم
                                           وتأتي على  قدر الكرام المكارم

  وتعظم في عين الصغير  صغارها
                                      وتصغر في  عين العظيم    العظائم

 وكذلك قالوا  في  المطايبة  والمفاكهة  والهزل  وفي كل امور الحياة اليومية  ففنون الشعر هذا العصر كثيرة كثيرة .

      ولو  لاحظنا  معاني الشعر  في هذا العصر  لوجدنا انها   تطورت وتوسعت  كثيرا  الى حد  لا يمكن حصره  وتحديده  بكلمات  نكتبها  عنه   فمنها ما  قيلت  بحالة من الرقي  والقوة والمتانة  بعيدة عن الا بتذال  والاسراف  فكانت قصائد  ذات معان  راقية  متطورة  وخاصة تلك التي قيلت في المدح والفخر او تلك التي اختصت بالسياسة والاجتماع  او التي قيلت في الرثاء والهجاء  والغزل المحتشم . ومنها  من اكثر في الاسراف  الى حد الغلو في المجون  والابتذال وبالكلمات الرخيصة  وخاصة  تلك  القصائد التي قيلت في الغزل  والمجون  والغزل بالمذكر وما اليها والتي لم تكن معروفة لدى الشاعر العربي او كان  يأنف ان يقول فيها  قبل هذا العصر.

    وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية  في الشعر فكانت في اغلب الاحوال  معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي  وتأييد المعرفة  او نشرها عن  طريق الشعر .

        وعلى العموم  صارت  ارضية  المعاني الشعرية  خصبة  يتصرف بها الشاعر او ياتي بها على هواه  وامتداد  سعة ثقافته و خياله الذي حلّق في الافاق عند بعض الشعراء الخالدين . وكذلك ادخلت على الشعر الرموز الصوفية  والفلسفية  والاخلاقية  وكانت  بداية  للرمزية  في الشعر العربي  وقد  رقت  معاني الشعر في الاغلب وكثرت فيه المحسـنا ت اللغويـة  والبلاغية  والتشبيهات المختلفة  والصناعة الشعرية .لاحظ قول ابي فراس الحمداني :

  لبسنا رداء الليل والليل راضع   
                                     الى ان تردى رأسه بمشيب

 الى ان بدا وء الصباح كانه   
                                 بادئ  نصول  في عذار خضيب

         كل ذلك  كان في  اسلوبية   شعرية  اختلفت  في هذا العصر لما اصابها من تقدم وتطور  بحيث اصبح لكل شاعر اسلوبه الخاص او يكاد ان يكون هكذا  فقد اختلفت الاساليب  تبعا لنفسية الشاعر  وحالته  التي  يعيشها  و البيئة التي  قيل فيها  الشعر  بعد  امتداد  الدولة  العربية  من الصين شرقا حتى بلاد الاندلس والمغرب العربي غربا  فالبيئة الشرقية في فارس  وشرقيها اساليب الشعر فيها اختلفت عما هي عليه  في مصر والشام وبلاد الاندلس او المغرب العربي  كما اختلفت اساليب شعراء الجد عن اساليب شعراء الهزل .

      فالشعراء  الجادون اسلوبهم  فيه القوة  والمتانة وحسن اختيار اللفظ  والديباجة على غرار  الاساليب  الشعرية في العصور التي قبل هذا العصر مع  فارق التقدم والتطور الذي شمل اللغة العربية  وادابها على ايدي هؤلاء الفحول مثل المتنبي  والمعري  والحمداني والشريف الرضي  واسامة بن منقذ وغيرهم  بينما امتاز الشعر  الهزلي  بسهولة اسلوبه وسطحية  فكرته  وادخال الشعراء بعض الالفاظ  الفارسية والعامية فيه .ومن قول الشريف الرضي في الحكمة يقول :

 كن في الانام  بلا عين ولا اذن
                                 او لا  فعش  ابد  الايام  مصدورا
 والناس اسد تحامي عن فرائسها
                                 اما  عقرت  واما  كنت   معقورا

        الشعر عامة  في نهايات هذا العصر غلبت عليه  المحسنات اللفظية والبديعية وطغيان الصناعة اللفظية عند كثير من الشعراء فنجد الشاعر  كانما  ينحت  نحتا في ايجاد  الكلمة المناسبة واللفظة – صناعة شعرية -  و اهتموا باللفظ  على حساب المعنى  وخاصة في شرق البلاد وفي بغداد  وغيرها .

       اما في  الشام   ومصر  فقد  ظل الشعر  قويا متين البناء  الا انه دخلته  بعض الكلمات الغريبة والتعقيدات الكثيرة  ودخلت  اليه العلمية والفلسفة على ايدي بعض الشعراء  كالمعري  مثلا  الا  انه ساير التقدم الحضاري  ولم  يتوقف .

        كما ظهر التجديد  فغلبت على الشعر الرقة  والنعومة والسلاسة عند  كثير من الشعراء بل اغلبهم  وقد  ظهر  شعراء  الموشح  والزجل  والمواليا  حتى ان  بعض الشعراء من  ادخل اللهجات الدارجة او العامية في الشعر مع المحافظة على  بيان  وروعة  وبلاغة العربية  كل حسب مقدرته  وكفاءته  الادبية  وثقافته  اللغوية .


     وينفرد الشاعر ابو العلاء المعري بقوة اسلوبه وغزارة شعره واهتمامه به بين المثالية والشعرية  والفلسفة  لذا يعد افضل شعراء
 هذا العصر  مع الاشادة بالشعراء الاخرين  مثل الشريف الرضي وسعد التميمي والحصري والصنهاجي واسامة بن منقذ واحمد التيفاشي وغيرهم كثير .

     لذا  نستطيع ان نقول ان  ابا العلاء المعري هو  امير الشعر  في   
هذه الحقبة الزمنية واميرالشعراء فيها وهذا الراي خاص وربما رشح الاخرون غيره  الا اني ارشحه  من خلال دراستي لشعره  واقوال اغلب النقاد ومؤرخي الادب العربي .



                            ---------------------












الشاعر ابو العلاء المعري

الشاعر الفيلسوف

امير الشعراء للعصرالعباسي الثاني




            هو ابو العلاء  احمد بن عبد الله  بن سليمان  المعري التنوخي ولد في ( معرة النعمانى ) احدى مدن سورية  عام\ 363 هجرية  في بيت عز وشرف  وغنى ومحتد  عربي اصيل الا انه اصيب بمرض  الجدري  في الثالثة من عمره  فافقده البصر  وعاش طيلة حياته في ليل طويل .

        تعلم ابو العلاء  على يد والده فنشأ رغم عماه  ذكي الفؤاد  مرهف الحس  متوقد الذاكرة . قا ل الشعر  في عمر الطفولة   وقد توفي والده  في صباه وعمره  اربعة عشرة سنة  تاركا لولده الاعمى  ثروة طائلة  واكتنفته امه وسهرت على تعليمه وقد  تنقل في طلب العلم  بين  معرة النعمان مسكنه واللاذقية  وحلب وطرابس  وبغداد  لمواكبة دراسته وكانت  بغداد انــــذاك  قبلة  الأدباء  وموئل الشعراء  وبقى فيها ردحا من الزمن  متنقلا بين مجالس الادباء والشعراء ونواديهم وقد اجلّوه واحترموه بما يليق بمكانته  وفي بغداد انكب على دراسة الادب  والفلسفة والعلوم العربية والحكمة ولم يترك علما من العلوم أو الآداب  الا وخاض غماره وتولاه  بالدرس والتحليل  ولما عاد الى المعرة عاد  بحرا من العلوم  والاداب والفلسفة  , ساعده  حدة ذكائه وحفظه المفرط وسمو وعزة نفسه الابية وهو في بغداد  علم ان والدته مريضة  فهجر بغداد مكرها  وسافر  الى المعـــــــــــرة  لاستطلاع الأمر الا انه فوجئ  بخبر وفاتها ولمّا يصل وعند وصوله  انقطع الى نفسه وانعزل عن الناس  وعاش منفردا وحرم  على نفسه الاختلاط بالناس  حتى انه  عبر عن حالته في شعره . يقو ل:-         

  اراني في الثلاثة من سجوني     
                                           فلا تسال عـــــن الخبر النبيـــث

 فقدي ناظري ولزوم بيتــــــي      
                                            وكون النفس في الجسم الخبيث

        كان طلبة العلم يتوافدون عليه وهو قابع في بيته  فينهلون من  معين صاف لاينضب وبحر غزير واسع المعرفة وقد حرّم على نفسه اكــــــل اللحوم حتى قيل  انه لا ياكل  امام احد من الناس  فكان خادمه  يضع له الطعام في غرفـة معزولة  ثم يتوارى عنه لياكل وحده دون يراه احد  كما انه لم يتزوج ابدا  قال:- 

هذا ما جناه علي ابي      وما جنيت على احد

        توفي ابو العلاء  بعد اصابته بمرض خطيراودى بحياته بعد ثلاثة ايام  من اصابته به وذلك سنة \ 449 هجرية بعد عمر ناهز السادسة والثمانين سنة  عاما  قضاها في محبسه في ظلمة الحياة.

         لقد صب ابو العلاء جام سخطه على الحياة وحدّجها  بنظرة  ماساوية شـــــــــــــــــزراء تشاؤمية  فهو يراها  مفعمة  بالشر والكدر بل  كلها شر وما الخير فيها الا كزهرة  تقطع فتذوى وتذبل فتنضوي بل عدها ضلالـــــة وجهالة وما هي الا مكر وحذاع وما تظاهر الناس به الا رياء  او ما يتدينون عن تعقل وروية وهو المفكر الفاحص بل يعتبره  عن تقليد ابائهم  كما فعل الجاهليون  كما يرى ان الدين سبب العداوة بين الخلق ومصدر العداوة والشقاق بينهم يقول:-                                     

ان الشرائع ألقت ببننا احنا        وعلمتنا  افانين العداوات

        لكن  الشاعر وهو الزاهد في الحياة المتفكر بها  غير ملحد كما تصور البعض . انه مؤمن بربه  كل الايمان  لكنه يعيد كل الامــــــور على العقل  فما  قبله  العقل   واطمان به قبله وارتضاه  اعتقده و سار عليه  فالعقل عنده  المرجع  والامام  وما لم يقبله العقل رده  .لذا فهو مؤمن بوحدانية الله تعالى  :

توحد فان الله ربك واحد       ولا ترغبن في عشرة الرؤساء

          اساء المعرى الظن بالناس الى شاوى بعيد  ونزع الثقة منهم  وسخط على الحياة  كان يرى الانسا ن  المثالي  الحر العقل  والكريم في هذه الحياة  غريب  عن هذه الدنيا  ولا مكان له فيها  لذلك انزوى عن العالمين.

       وابو العلاء فيلسوف شاعر  فلسف الحياة في لزومياته  وقد استقى  اراءه  وافكاره التي غذاها  من انبع  مناهل العلم  واغزرها  في الادب والحكمة والفلسفة  والعقائد وظهــر كل ذلك في  قريضه   بنظم بديع  وكلام متين بليغ . فشعر ابي العلاء  بعد هذا وذاك  قوي متين  شديد الروعة  فهو  شاعر  فنان اديب  حجته بالغة  عارف باصالة الفن وروائعه  يمزج الفكر بالخيال  والفلسفة بالحكمة  واسع الادراك  والفهــــــــم  فياض المعاني  نظم قصائده في نظم  بديع  وشعر بليغ وقافية  متينة  و نظم  بعض شعره على قافية  معتمدا حرفين او ثلاثة في حين الحرف الواحد يكفي  فهو شاعر متمكن يغرف من بحر الشعر غرفا وينهل ماشاء له فهو بحق اشعر شعراء هذا العصر  واميرهم  ان وجدت الامارة فهي حكر عليه  مع العلم ان هناك شعراء فطاحل في هذا العصر مثل الشريف الرضي وابن رشيق القيرواني  والقيسراني  وابن حمديس والابيوردي  واسامة بن منقذ القائد العربي والبهاء زهير وغيرهم كثير . انظر اليه يقول:-                                                                   
        
اللَّه لا ريبَ فيه، وهو مُحتجبٌ، 
                                             بادٍ،  وكلٌّ  إلى  طَبعٍ  له  جذبا

أهلُ الحياةِ، كإخوان المماتِ، فأهْـ
                                          ـوِنْ بالكُماةِ أطالوا السُّمرَ والعَذبا

لا يعلمُ الشَّريُ ما ألقى مرارتهَ
                                           إليه، والأريُ لم يشْعُر، وقد عذُبا

سألتُموني، فأعيْتني إجابتكمْ؛  
                                             من  ادّعى  أنّه  دارٍ  فقد  كذبا

       وهذه سمة لم يسبقه الشعراء اليها  ولم يات احد بعده عليها  فكان المعري  يلهي  نفسه  بها  في وحشته وانعزاليته  ومن حيث اللفظ  فهو كثير غريب اللغة ووحشي اللفظ   حتى ان المتتبع  لشعره بحاجة  الى معجم   لمعرفة  معانيه ومقاصده  وليــــس هذا  بغريب على شاعر مثل المعرى  الواسع الذكاء العارف بخفايا العربية واسرارها  ومعانيها واساليبها وبلاغتها  خاصة وانــــه عاصر عهدا وصلت العربية فيه الى ارقى اللغات  اضف ان  قصائده  تطغى عليها قوة بلاغية  جناسية في اكثر الاحــــــــــــــوال :

   وجدت الناس في هرج ومرج     
                                             غواة  بين  معتز ل و مــــرج

   فشان ملوكهم غرف ونــــزف 
                                              واصحاب الامور جبا ة خرج
       
         فاللزوميات  فلسفة الحياة ومبادىء الاخلاق تتجلى فيها اساليب نقد وسخرية هذا الشاعر من الحياة  ومن الناس  بدعابة في جد , يكشف  اغوار النفس الانسانية  واسرارها  في شعر بليغ  لم يات بمثله الذين سبقوه  والذين  جائوا  من بعده  يقول:-

جهلنا فلم نعلم على الحرص مـا  
                                        الذي يراد بنا والعلم لله ذي المـــــن  

  اذا غيب المرء استسر حديثـــــه   
                                          لم تخبر  الافكار عنه بما يغنــــــي 

  تضل العقول الهبرزيات  رشدها    
                                         ولـم يسلم الراى القوي من الافــــن

 طلبت يقينا من جهينة  عنهـــــم  
                                         ولم تخبريبي  ياجهين  سوى  الظن 

   فان تعهديني  لا ازال  مســـائلا     
                                         في لم  اعط الصحيح  فاستغنــــــــي

       هذا ابوالعلاء غير متطير لكنه متشائم شديد التشاؤم  لايرى في هذه الدنيا الا شرا مستطيرا لا يستطيع دفعه ولا يامل بازالته  او تحسينه  لذلك  ينظر الدنيا  بمنظارة سوداوية  حالكة يقول:- 

وهل لحق  التثريب  سكان يثرب 
                                   من الناس  لابل في الرجال غباء

اوقوله:-

أراني في الكرى  رجل  كأنــــي    
                                          من الذهب  اتخذت غشاء راسي    

قلنسوة خصصت بها  نضــــارا  
                                          كهرمز اوكملك اولى  خراســـي

فقلت معبرا ذهب ذهابــــــــــــي   
                                         وتلك نباهة  في  انـــــــــــدراس

اقمت وكان  بعض الحزم يومـــا 
                                         لركب السفن ان تلفي الرواســي

 اسمع قوله في نفي التطير :-

وما اسر لتعشير الغــــــراب اسى 
                                          ولا ابكي خليطا حل تعشــــــارا

ولا توهمت انثى الانجـــــم امــراة  
                                            ولا ظننت سهيلا  كان عشتارا

             بقي ان نقول ان هذا الشاعر الكبير ابو العلاء المعري  شاعر الحياة وفيلسوفها  ترك وراءه جملة من الكتب والمؤلفات إضافة إلــى  شعره  في ( اللزوميات ) و( سقط الزند )في الشعروالادب  تربو على الثمانين مؤلفا و في مكتبتي منها  رسالة الغفران  ورسالة الصاهل والشاحج  ومنها  رسالة الملائكة وذكرى حبيب و الأيك والغصون  وعبث الوليد  ومعجز احمد والفصول والغابات  وغيرها رحم الله شاعر العربية وامير الشعر وامير شعرائها في عصره  وفيلسوفها  الكبير   . 

   واختم بحثي بهذه القصيدة  من شعره يقول:                                                

غير مجدٍ في ملتـي واعتقـادي
                                                 نـوح بـاكٍ ولا ترنُّـم شــادِ

وشبيهٌ صـوت النّعـي إذا قـيــس
                                                     بصوت البشير في كل نـادِ

أبكـت تلكـم الحمامـة أم غـنّــت
                                                   على فرع غصنهـا الميـادِ

صاح  هذي قبورنا تملأ الرُّحــب
                                                  فأين القبور من عهد عـادِ ؟

خففِ الوطء ماأظـنُّ أديـم الأر
                                                 ض إلا مـن هــذه الأجـسـادِ

وقبيحٌ بنـا ، وإن قـدم العـهـد ،
                                                    هـوان  الآبـاء  والأجــدادِ

سر إن استطعت في الهواء رويداً
                                                لا اختيالاً علـى رفـات العبـادِ

ربَّ لحدٍ قد صار لحـداً مـراراً
                                                  ضاحكٍ مـن تزاحـم الأضـدادِ

ودفيـن علـى بقـايـا دفـيـنٍ
                                                 فـي طويـل الأزمـان والآبـادِ

فاسـأل الفرقديـن عمَّـن أحسّـا
                                                    مـن قبيـلٍ وآنسـا مـن بـلادِ

كـم أقامـا علـى زوال نهـار
                                                 وأنـارا لمدلـجٍ فـي ســوادِ ؟

تعبٌ كلها الحيـاة فمـا أعجـبُ
                                                   إلا مـن راغـبٍ فـي ازديــادِ

إنَّ حزناً في ساعة الموت أض
                                              عـاف سرورٍ فـي ساعـة الميـلادِ

خلـق النـاس للبقـاء فضلَّـت
                                                       أمــةٌ يحسبونـهـم للـنـفـادِ

إنمـا ينقلـون مـن دار أعـمــالٍ
                                                       إلـى دار شقـوة أو رشـادِ

ضجعة الموت ، رقدةٌ يستريح الــجسم
                                                     فيها ، والعيش مثل السهادِ

كل بيـتٍ  للهدم  ما تبتنـي   الـور
                                                   قـاء والسيّـد الرفيـع العـمـادِ

والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظـلُّ السـدر
                                                     ضـربَ  الأطنـاب  والأوتـادِ

بان أمـر الإلـه واختلـف النـاس
                                                      ، فداعٍ إلـى ضـلالٍ وهـادِ

والـذي  حـارت  البريـة  فـيـه
                                                  حيـوانٌ مستحـدثٌ مـن جمـادِ

واللبيبُ   اللبيبُ   من   ليـس
                                                 يغتـرُّ بـكـونٍ مصـيـرهُ للفـسـادِ





                      ************************                                                                                              





          الشعر العربي  في بلاد الاندلس
                      وامرائــه        
        


  جزيرة ( البيرة ) او ( ايبيريا ) كما  يسمونها  العرب  او اسبانيا تقع  في اقصى الجنوب الغربي  من قارة اوربا  . يحدها من الشمال  بحر الشمال  و فرنسا تحدها من الشمال والشرق اما من الجنوب فيحدها البحر الابيض المتوسط  ويحدها من جهة الغرب المحيط  الاطلسي  وتشمل في الوقت الحاضرعلى مملكة اسبانيا ومملكة البرتغال . 
                         
     فتح العرب جزيرة  اسبانيا (الاندلس) في زمن الخليفة  الاموي الوليد  بن عبد الملك سنة\ 93 هجربة  عندما  وجه اليها حملة قوية بقيادة  القائد العربي ( طارق بن زياد ) ومن المفارقات النادرة  ان هذا القائد العظيم  بعد عبوره البحر من المغرب الى اسبانيا - من المضيق الذي يقع في فم البحر الابيض المتوسط  وكان يسمى مضيق ( اعمدة هرقل ) لان فيه كهف تكثر فيه الاعمدة الحجرية الطبيعية وتغير اسمه  الى مضيق( جبل طارق ) بعد عبوره وحتى هذه الساعة - احرق  كافة السفن التي اقلته هو وجنوده المقاتلين  بحيث اصبح الجيش الغازي امام امرين اما الفتح  والحياة  واما  الهزيمة و الموت المحقق فكان الجيش  العربي قاتل قتالا مريرا دفاعا  عن النفس قبل كل شيء اذ لا امل  له بالرجوع  والنجاة في حالة الانكسار و مستلهما من التضحية والجهاد في سبيل الله نبراسا لهم بحيث باعوا نفوسهم لله تعالى  :
 
(  ان الله اشترى  من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون )  سورة التوبة  الاية \ 111
 فكان النصر العظيم حليفهم .

       وغزت اللغة العربية بلاد الاندلس مع الفاتحين  وانتشرت بمرور الوقت لكثرة  من رحل من العرب او البربر الساكنين في شمال افريقيا  او العرب الذين هاجروا اليها لتصبح بعد فترة لغة سكان الاندلس  وما جاورها  فقد انتقل عدد كبير من العرب الى الاندلس بعد فتحها وتمركز الحكم العربي الاموي فيها وبالاخص من الشام ومصر وبلاد المغرب.

      ولما كان الشعر متأصلا في نفوس العرب وعواطفهم كغريزة فيهم   فقد عبر معهم البحر الى البلد الجديد وليجد مناخا  طبيعيا رائعا رائقا  لم  بجدوا مثله في البلاد التي قدموا منها حيث وجدوا الجمال و البهاء والخضرة الدائمة سواءا في الجبال او السهول او ضفاف الانهار الجارية وكثرتها مما اوقد  جذوة الشعر والثقافة في نفوسهم وافكارهم  فشعروا  بالهجة  والحياة الجديدة  وانتشر فيها الشعر الا انه طغت عليه الصفة  التقليدية العربية في البدء ثم بدء التاثر في المجتمع الاسباني والطبيعة الاندلسية الجميلة فتحولت الا ندلس الى جنة  الله  في الارض .

      افتخر العرب في بلاد الاندلس بانسابهم واحسابهم  كما كانوا في المشرق  وهاجرت معهم كل امورهم  حتى عصبيتهم القبلية  بين العدنانية والقحطانية  وانتشرت كما مدحوا اقوامهم وخلفاءهم  وامراءهم وهجوا اعداءهم  والمنافسين لهم فكان الشاعر الاندلسي  اول ذي بدء مقلدا للشاعر العربي في المشرق  ويحذو حذوه ويسيرعلى نسقه فقلد ابن زيدون في شعره ا لبحتري  وقلد ابن هانىء الاندلسي  المتنبي على سبيل المثال  وغيرهم كثير  .


     ظهر الشعر في  الأندلس في ظروف تختلِف  عنها في المشرق، ظروف تتَّصل بطبيعة الارض الأندلسية وتنوُّعها والعناية بمواطن جمالها، وأخرى متَّصلة بالتكوين  الثقافي والنفسي  للسكَّان، فلأوَّل مرة يلتقي العربي  مع  أجناس  مختلفة , قوطية و لاتينيَّة  وبربريَّة  ويهوديَّة  ومسيحية  وعلى أرض واحدة،  وتعايشت ابتداءا   تحت  سمائها  الأدْيان السماوية  الثلاثة:  الإسلام والمسحية واليهودية ، فكان في البدء  يسمع صوت المؤذن إلى جانب رنين أجراس الكنائس والبِيَع، وتتحدَّث العربيَّة إلى جانب الأمازيغية، والإسبانية  وفي مرور الزمن تبلورت في بوتقة واحدة لتكون العربية هي اللغة العامة لهذه البلاد وتذوب كل اللغات الاخرى فيها الا نادرا  وفي الاصقاع البعيدة  او في  البدان المجاورة او على  حدودها  وانشر الاسلام في كل اصقاعها الا ماندر.

      انتشر الشعر العربي في  بلاد الاندلس  بعد  ان دخل فاتحا  مع الفاتحين  العرب  وسار معهم  اينما  توجهوا  فبلغ  ايطاليا  وبحر الادرياتيك  ووصل الى جزيرة صقلية  وجزيرة مالطة بل وفي كل بقعة  او جزيرة في البحر الابيض المتوسط  وحتى سواحل الاطلسي الجميع تتكلم العربية وتكتب فيها واعتبرت العربية  اللغة الرسمية لهذه  البلاد وثقافتها وعلومها  وادابها  وخاصة  الشعر فازدهر في  كل مكان  صار اليه ووجد فيه  لجزالته  ورقة اسلوبه  ووضوح معانيه  وخاصة انه نظم في هذه الاصقاع  الجديدة  الغناء بين الخضرة الدائمة والجو اللطيف  وقد اكثرالشعراء من وصف هذه الديارالجديدة ورياضها  فهذا الشاعر
   ابن سهل الأندلسي  في  قصيد ته المشهورة بالرداء الأخضر يقول :

الأرض قد لبست رداءاًأخضـرا
                                                   والطـل ينثر في رباها جـوهرا

هاجت فخلتُ الزهر كافـورا بها
                                                 وحسبتُ فيها الترب مسكا أذفرا

وكأن سوسـنها يصافـح وردها
                                                    ثغر  يقبـل  منه  خـداً أحمـرا

والنهـر ما بين الريـاض تـخاله.
                                                      سيفا تعلق في نجـاد أخضرا

 و يقول الوزير ابن الحمارة الأندلسي:

لاحَتْ قُرَاهَا بَيْنَ خُضْرَةِ أَيْكِهَا  
                                                 كَالدُّرِّ  بَيْنَ  زَبَرْجَـدٍ  مَكْنُـون

ويقول الشاعر لسان الدين بن الخطيب في وصف غرناطة :

غِرْنَاطَةٌ   مَا   لَهَا     نَظِيرٌ  
                                                 مَا مِصْرُ مَا الشَّامُ مَا العِرَاقُ

  مَا هِيَ  إِلاَّ  العَرُوسُ  تُجْلَى
                                                 وَتِلْكَ   مِنْ  جُمْلَةِ  الصَّدَاقِ


ويقول  الشاعر ابن سفر المريني متغنِّيًا بالأندلس ومواطن الجمال فيها:

فِي  أَرْضِ   أَنْدَلُسٍ   تَلْتَذُّ   نَعْمَاءُ   
                                                وَلا  يُفَارِقُ  فِيهَا   القَلْبَ   سَرَّاءُ

وَلَيْسَ  فِي  غَيْرِهَا  بِالعَيْشِ  مُنْتَفَعٌ   
                                               وَلا  تَقُومُ  بِحَقِّ   الأُنْسِ   صَهْبَاءُ

وَأَيْنَ يُعْدَلُ عَنْ أَرْضٍ  تَحُضُّ  بِهَا    
                                              عَلَى    المُدَامَةِ     أَمْوَاهٌ     وَأَفْيَاءُ

وَكَيْفَ لا  يُبْهِجُ  الأَبْصَارَ  رُؤْيَتُهَا  
                                               وَكُلُّ رَوْضٍ بِهَا فِي الوَشْيِ صَنْعَاءُ

   أَنْهَارُهَا  فِضَّةٌ  وَالمِسْكُ   تُرْبَتُهَا 
                                                وَالخَزُّ   رَوْضَتُهَا  وَالدُّرُّ  حَصْبَاءُ  


     إنَّ السماحة التي ظلَّلت المجتمع الأندلُسي وبعده عن التعصُّب المقيت، لعِبت دورًا كبيرًا في خلق التَّعايُش والتَّجانُس بين سكَّان الأندلس، كان أثره المباشر على الشِّعْر الأندلسي       .

       لقد انتشر الشعر العربي  في الاندلس  حتى وصل الى منتهاه في الرقي  والتطور في  زمن  ظهور دول الطوائف  حيث ان كل امير جمع حوله الادباء  والشعراء  وبذلك حصل الشعر العربي في الاندلس  على مكانة عظيمة وثروة  ادبية  كبيرة  نتيجة هذا  التنافس  بين  الا مراء والشعراء  و الطبيعة  الخلابة التي بهرت الفكر العربي وبالاخص الشاعر  العربي  فابدع  فظهرت نتيجة هذا الابداع  معان جديدة واساليب جديدة  متطورة ومتمدنة  وظهر الموشح  في الشعر  والذي  لا يزال يعد  مفخرة من مفاخر الشعر العربي في الاندلس .

       مر الشعر الأندلسي بأطوار ثلاثة: فكان منذ الفتح حتى أوائل القرن الخامس الهجري يمثل شعر التقليد لأدب المشرق، ولم يكن التقليد عجزاً عن الابتكار، وإنما شعور بالانتماء إلى الأصل كشعر ابن عبد ربه، وابن هانئ وابن شهيد، وابن دراج القسطلي.              

      ونلاحظ في هذه الاطوار ان الاول  يمتدّ طيلة العهد الأموي و تستغرق نحواً من ثلاثة قرون.وفيها  الشعراء و الكتاب الذين ظهروا فى هذه الفترة كانوا شديدي الصلّة بأرض المشرق الّتي انطلقوا منها  ومنهم  العراقي  والحجازي ,والشامي  و اليمنى  وكلّ منهم  يحن إلى الربوع الّتي فارقها. فاذا الشعراء الأولّون يتّغنون بارض نجد و بلاد الشام و اليمن  و ينظمون  قصيدهم على نحو ما كان اهل الشرق ينظمون. و لقد  ظهر التقليد  فى كلّ شيءٍ, فى المعاني و الأساليب و الأخيلة و الصورالشعرية  و الموضوعات مثل المديح و الهجاء      
و الرثاء و الغزل و .....                                            .                                                               

       الا انه ظهر جيل اخر ترسم شعراءه خطى من سلفهم لأنّهم كانوا شديدي التأثر بهم و لم تكن الفترة الزمنيّة كافيّة لأنّ تجعلهم يذوبون فى البيئة الجديدة, فقد ظلوا يحسون انّهم غرباء, و ظلّت صلتهم بالمشارقة   و حنينهم الى مسقط رؤوس ابائهم حاضرة.  فنسجوا على منوالهم فى الاوزان و الأغراض و المعاني و الأساليب لكنّهم يقصرون عنهم تقصير المقلّد عن المبدع.  وكان ذلك واضحا فى شعر ابن هانئ الاندلس و ابن عبد ربه  و ابن درّاج  القسطلى بحيث كانت  مطالع  قصائدهم  غزليّة تقليديّة وفيها  وصف للطلول و الصحراء و خيام البدو وحتى الناقة .
      لكن ليس طبيعيّا أن يظلّ تقليديّا عدة قرون تقريباً, لولا أن شعراء الأندلس كانوا شديدي المحافظة على التقليد القديم, لشعورهم بالضعف حيّال المشارقة و لكثرة ما اهتدى اليه شعراء المشرق من وجوه الإجادة و الإبداع . فكان هولاء الأندلسيون   يحاولون تقليد ابي نواس و مسلم بن الوليد و ابي تمام و البحتري و  المتنبّي و سواهم من فطاحل الشعراء في المشرق العربي فى تلك الفترة من الزمن..
      و مما امتازت به هذه المرحلة أيضا النشاط اللغوي فقد بذ ر العرب الأولون القادمون من المشرق بذورها و تعهدها على سبيل المثال  ابو على القالي بالعناية  فتتلمذ  بعض الاندلسيين علي يديه  وتخرج على يديه لفيف من الأدباء و اللغويين امثال ابن القوطيّة  مّؤلف كتاب ( الأفعال) و ابن السيّد البطليوسى صاحب كتاب  (الأقتضاب) و أبي بكر الزبيدي صاحب كتاب ( أخبار النحويين)  وغيرهم كثير.
              اما الطور الثاني  وهو طور التجديد  وفيه  ادرك الأندلسيون خلالها شخصياتهم و تحقق لهم التأثر الفعلي بالبيئة الأندلسية وانماط الحياة فيها و تعمّقت جذورالثقافة العربية  فى أراضيهم. و هكذا ظهرت ملامح التجديد فى كلّ من الشعر و النثرعلى حد سواء من غيران يزول التقليد زوالاً نهائيّاً الا انّ تقليد الشعراء الاندلسيين للمشارقة المجددين هو ذاته لا يخلو من تجديد ولعل  أبرز مظاهر التجديد فى الشعر الأندلسي  بأنّ تلك الفترة  تتجلّى فى العناية بالشكل, وقد فهموا ان  الشعر عمليّة غنائيّة فنّية  فصرفوا اهتمامهم الى الموسقي و سهولة الألفاظ  و رشاقة التعبير و خفّة الوزن حتّى بات الشعر الأندلسي فى هذه المرحلة يمتاز عن الشعرالعربي في المشرق  بسهولة اللفظ  وأشراق الديباجة و قرب المتناول, بحيث   ان الأندلسيين بهذه الحقبة نسوا اوطان ابائهم و اجدادهم و راحوا يصفون بيئتهم وما فيها من خصب و جمال ونضارة  خضراء  و تعلّقوا بها تعلّقا زاده حدّة ما كانوا يلقونه من عيون تتفتّح على تلك الجنان و اطماع تمتدّ الى معاقل العرب فى الأندلس.  فكان الشاعر ينفعل اشدّ الأنفعال لمرأى الأرض الّتي ترعرع عليها و تكوّنت ذكرياته ايام الصبّا و الشباب بين حنايها فيغنيها  لسانه بغناء عذب رقيق فيصوّر مفاتن البلاد ومحاسنها                                                                  .
                                                            
        اما الطور الاخر اوالمرحلة الثالثة  فهي مرحلة التجديد  وتعني المرحلة الأخيرة من نهضة الشعر الأندلسي, حيث بلغ فيها  ذروته. وفيها تحررالشعرالاندلسي  من تقليد الشعر في المشرق العربي كل التحرر, وصارت له اساليبه وفنونه  الخاصة به والمستمدة من الحياة الاندلسية الخالصة, كشعر الموشحا ت  ورثاء المدن  و الشعر الغنائي, والاستنجاد وكل فنون الشعر  الاخرى …                                           

     أنَّ  اكتمال الشَّخصيَّة  الشعرية  الأندلسيَّة  لم  يؤدِ ّ إلى إثبات الوجدان الأندلسي المستقل فحسب؛  بل ساهم  بشكْلٍ  كبير  في ظهور إبداع أندلسي أصيل  شهِدته الأندلس، متمثِّلٍ في الموشَّحات والزَّجل، باعتبارهما  فنَّين  جديدين  في الشعر  الاندلسي  ثم العربي ، فهما يعدان  من  ثمار التطور الأندلسي.

      وقد صور الشعراء بيئتهم الرائعة ، وبرزت العوامل الأندلسية الذاتية كما في شعر ابن عبدون، وابن خفاجة، وابن سهل، وأبي البقاء الرندي، وابن خاتمة الأنصاري، ولسان الدين بن الخطيب، وابن زمرك، ويوسف الثالث ملك غرناطة، وابن فركون، وعبد الكريم البسطي.

     بسبب هذه محاكاة شعراء الاندلس للشعراء العرب في المشرق وتتبعهم أساليبهم ومعانيهم فقد تكنوا  باسمائهم  فقيل للرصافي ابن الرومي الأندلسي، ولابن دراج متنبي المغرب، ولابن هانئ الاندلسي متنبي الأندلس، ولابن زيدون بحتري الأندلس.

         وكانت ظاهرة الانتقاء من التراث من خصائص الأدب الأندلسي، فكانوا يضمنون  قصائدهم  أقوال الشعراء قبلهم  وأشعارهم وأمثالهم وكل ما صادف هوى في نفوسهم. ولقييت حركة التجديد صدى واسعا  مستحباً  في نفوس الأندلسيين، فلم  يتقيد أغلب الشعراء  بالاساليب الجاهلية او القديمة ومعانيها وأوصافها وقد نفروا من الألفاظ الوحشية  والغريبة عليهم  إلى الألفاظ المأنوسة الرقيقة، وكانت القافية الواحدة، وأوزان العروض الستة عشر ومثلها أكثر المعاني والأساليب المتوارثة في الشعر التقليدي في الأندلس .

        الاساليب الشعرية في الاندلس تتشابه مع الاساليب الشعرية في المشرق العربي  في بداية  تكوين الدولة الاندلسية  وتختلف عنها باختلافات بسيطة باختلاف شخصية الشاعر.

        وعلى العموم كان هناك اسلوب رصين ومتين بنى عليه الشعراء قصائدهم  دخلت عليه بعض من كلمات غريبة الا انه بقي جزل العبارة  فخم اللفظ  شديد سميك  البناء .

      الا ان الشعراء تاثروا  بالامم الغربية  بعد اطلاعهم على عاداتهم وتقاليدهم وتغيير البيئة  عليهم  والشعراء اول الناس يتغيرون ويتاثرون بمثل هذه الامور ويهيمون بمثل هذه الاشياء  فادى هذا التغير الى تطور اساليب الشعر  فتطور الاسلوب الشعري الغنائي اولا  وما ل الشعراء الى  التحرر من القيود الشعرية  والانطلاق منها   فكانت هناك  قصائد في الشعر  في الاسلوب السهل  والتفعلية القصيرة  او المشطورة  او قل قطعت تفاعيل الخليل الى النصف في بعض الاحيان  او الى الربع وحسب الحاجة  وموازنة  الموسيقى الشعرية  الغنائية  حيث  ظهر الموشح  في الشعر العربي  في الاندلس  واقتبسه  الغربيون  بعد  عشرات السنين  والموشح  موسيقاه  من الاوزان الشعرية  المألوفة في الشعر العر بي  توشحت اواخره اما  بقواف  ثنائية او ثلاثية  واما  بجمل  متحدة القافية  ومتوازنة المعنى .

       اما  اساليب الشعر العربي في الاندلس على العموم  سهلة رقيقة  مفهومة المعنى جعلت الشعراء  ينظرون  الى التقدم والتحضر والرقي   ويلقون بانفسهم في  مهاوي الحياة  السعيدة المؤطرة بالرفاهية  وسبل العيش الهني   ينشدون للحياة  المرفهة  بين الروضة والجنة  وبين الغنوة والرقصة واللحن الجديد او بمعنى اخر  ينشدون ما يبهج النفس  وفق ما املته الطبيعة الاندلسية الخضراء  فتركت هذه الطبيعة  ثروة شعرية ما زالت  تطوي الايام  وتقف  كالجبل الشامخ  في  وجه  كل الصروف الدهرية  والاحداث  الجسيمة  بقصائدها  العصماء التي هي من عيون الشعر العربي   ولا تستطيع ان تطويها الايام او تغير من مكانتها  الادبية والثقافية  رغم  مرور مئات السنين  .

       وعلى العموم فان الشعر الاندلسي  يتميز بميزات  كثيرة منها سهولة الالفاظ  وسلاسة التركيب ووضوح المعاني  كما ظهر في شعر الشعراء  وفي حركة التجديد  في الشعرالعربي  في بلاد الاندلس  مثل الموشح  وذلك لجمال الطبيعة الاندلسية  وسعة خيال الشعراء  بهذه الطبيعة وافتتانهم بها  فقد رق الشعر  وكثرت التشبيهات  البديعية والتوليدات الكلامية العجيبة فجاء ت قصائدهم رائقة التحلية  فائقة التورية بديعة  التنسيق.

        ومن المثير جدا  كثرة الشاعرات الاندلسيات  بالقياس الى عددهن في المشرق العربي  ومفاده ما تتمتع به المراة الاندلسية  من علم  ومعرفة وحرية شخصية   فمنهن  على سبيل المثال -  عائشة القرطبية وولادة ابنة  الخليفة المستكفي  وحسان التميمية و حفصة الحجازية  وحمدونة بنت زياد  وغيرهن كثير .

         وستبقى هذه القصائد وذلكم الشعراء يذكّروننا  ان  العرب  فتحوا بلاد الاندلس وعمروها واقاموا فيها حضارة عربية  لم تكن موجودة  في المجتمع الاوربي  كله  واصبحت هذه الحضارة  رافدا من روافد النهضة  الاوربية  الحديثة  وسببا من اسباب تقدم الانسانية في الماضي والحاضر والمستقبل .

         فالشعر  العربي في الاندلس ما هو الا امتداد للشعر العربي في المشرق  فقد تشابهت  معاني الشعر الاندلسي  اول الامر و معاني الشعر العربي   في جميع مناحي الحياة والا مور التي قيل فيها  فكأنه هو, فكان هناك  شعر عالى النشأة شريف المعاني  نشأ  بجانبه  شيء  من شعر المجون  والابتذال  والخلاعة  اوجدته  الطبيعة الاندلسية  الا انه قليل  وبمرور الوقت دخلت حركة التجديد الى الشعر الاندلسي كما  دخلته  في الشعر العربي المشرقي  و غالى الشعراء في المدح  الى  حد  ان  اتوا بالمستحيل  وغير المأتي  به  في وصف الممدوح في المشرق غير انه بعد الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد وتمركز الحكم فيها  واحساس الشعراء بتغيير البيئة والمجتمع  انعكس ذلك في شعرهم  فرق  ولطف  وابتعدوا عن البدوية التي  كانوا عليها الى شعر  محدث جديد   وكان  للطبيعة ومشاهدها الجميلة الحضور العظيم في الشعر العربي  الاندلسي  فتبدلت الطبيعة الصحراوية الجافة بطبيعة خصبة  خضراء قد افاض عليها الله  كل نعم  الحياة و الجمال  وحباها   بما شاء من  خير ونعم  بين الخضرة  وواريج الورود  وظلال وارفة وطبيعة غناء تسر الناظرين وتفتح القلوب وتبهج النفوس مقرونة  بالجمال الخلاب لينشد الشاعر قصيدته  فيها بل هي القصيدة ذاتها .

       وكان  لاتصال العرب  بالغرب  نتيجة هذا الفتح المبارك  وتطلعهم  على عاداتهم وتقاليدهم  ان اثر هذا في تقدمهم  فكان الشعر الاندلسي  رقيق الحواشي رفيع المعاني رقيق الشعور الشعري  عذب الالفاظ جميلها واضحة  البيان في تعبيرها  .

          كل ذلك ظهر في الشعر العربي في الاندلس  حتى تطور في معانيه وفي كل  ما لبسه من اثوا ب قشيبة وحلل ناعمة رقيقة فكان الشعر الموشح  الجديد في الشعر العربي  وكذلك ظهور شعر الزجل   تبعا لما اقتضته طبيعة المجتمع هناك و حاجته الى ايجاد فن  الغناء وموسيقى  تنسجم معه .

         فترنم الشاعر  الاندلسي  بكل مايحس به  وما تفرضه عليه  ظروف الحياة الحلوة الجميلة  التي يعيشها  والطبيعة الغناء  من ابتكار في المعاني ورقتها  وانتقاء الكلمات الخفيفة الرقيقة في النفس  والخيال الواسع  والتاثير  في الاخرين . ونتج عن هذا التطور الكبير  التجديد في الشعر في قصيدته واسلوبه ومعانية وفنونه  وايجا د نوع  جديد  من الشعر اسموه ( الموشحات) واخر اسمونه ( الزجل )  وسناتي  عليها  جميعا بايجاز.

      فالموشح فن من فنون  الشعر العربي استحدثه الاندلسيون بدافع الخروج على نظام القصيدة و على النهج القديم  وانسجاماً مع روح الطبيعة الجديدة كونه اقرب اندماجاً في تنوع الموسيقى الشعرية في التلحين والغناء.

        والموشح  فن جميل  من فنون الشعر العربي اتخذ قوالب بعينها في نطاق تعدد الأوزان الشعرية وقد اتسعت الموشحات وتطورت لتشمل كل موضوعات الشعر وأغراضه وقد عرف  ابن سناء الملك الموشح فقال :
( الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص وهو يتألف في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات ويُقال له التام، وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات ويُقال له الأقرع، فالتام ما ابتدئ فيه بالأقفال، والأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات).

      وقيل سمي موشحاً لأناقته وتنميقه تشبيهاً له بوشاح المرأة في زركشته وتنسيقه . فالموشحا ت سميت بذلك لأن تعدد قوافيها على نظام خاص جعل لها جرساً موسيقياً لذيذاً ونغماً حلواً تتقبله الأسماع، وترتاح له النفوس،وقد قامت القوافي فيها مقام الترصيع بالجواهر واللآلئ في الوشاح فلذلك أطلق عليها (الموشحات) أي الأشعار المزينة بالقوافي والأجزاء الخاصة، ومفردها موشح  وتعني انها منظومة موشحة أي مزينة  ولهذا فلا يقال قصيدة موشحة لأن لفظ القصيدة خاص بالشعر المنظوم في البحور الستة عشر المعروفة .

     و قد نشأت الموشحات في الأندلس أواخر القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وكانت نشأتها  في الفترة التي ازدهرت فيها الموسيقى وشاع الغناء من جانب،وقوي احتكاك العنصر العربي بالعنصر الاسباني من جانب آخر،فكانت نشأتها استجابة لحاجة فنية  حيث،أن الأندلسيين كانوا قد أولعوا بالموسيقى وكلفوا بالغناء منذ أن قدم عليهم زرياب وأشاع فيهم فنه . والموسيقى والغناء إذا ازدهرا كان لازدهارهما تأثير في الشعر أي تأثير، وقد اتخذ هذا التأثير صورة خاصة في الحجاز والعراق حين ازدهر فيهما الغناء والموسيقى في العصر الأموي ثم العصر العباسي، وكذلك اتخذ هذا التأثير صورة مغايرة في الأندلس حين ازدهر فيها الغناء والموسيقى فيظهر أن الأندلسيين أحسوا بقلة انسجام القصيدة الموحدة إزاء الألحان المنوعة، وشعروا بجمود الشعر في ماضيه التقليدي الصارم أمام النغم في حاضره التجديدي المرن، وأصبحت الحاجة ماسة إلى لون من الشعر جديد يواكب الموسيقى والغناء في تنوعها واختلاف ألحانها ومن هنا ظهر هذا الفن الشعري الغنائي الذي تتنوع فيه الأوزان وتتعدد القوافي، والذي تعتبر الموسيقى أساساً من أسسه فهو ينظم ابتداء التلحين والغناء ونتيجة لظاهرة اجتماعية .

     و كذلك  جاءت نتيجة لظاهرة اجتماعية حيث أن العرب امتزجوا بالأسبان، وألفوا شعباً جديداً  من العرب و الاسبان وكان من مظاهر الامتزاج أن عرف الشعب الأندلسي العامية اللاتينية كما عرف العامية العربية، أي أنه كان هناك تزاوج لغوي نتيجة للازدواج العنصري.

      واول من اخترع فن التوشيح الأندلسي مقدم بن معافى القبري،ثم ياتي بعده  اسم أحمد بن عبد ربه صاحب ( العقد الفريد)  ، أما المؤلف الفعلي لهذا الفن كما أجمع المؤرخون فهو أبو بكر عبادة ثم الأعمى التطيلي كبير شعراء الموشحات، وابن باجه الفيلسوف الشاعر ، ولسان الدين بن الخطيب .

     اما في  بلاد  المشرق فكان الفضل لابن سناء الملك المصري في ذيوع  فن الموشحات في مصر والشام وهو صاحب الموشح المعروف  :

    كللي يا سحب تيجان الربى بالحلى
                                     و اجعلي  سوارها  منعطف  الجدول


      ويتكون الموشح  من أجزاء ولكل جزء من هذه الأجزاء اسم يميزه عن غيره ولمعرفة هذه الاجزاء  نقوم بتحليل هذه الموشح القصير لابن مهلهل في وصف  الطبيعة ً:


      ( النهر سلّ حساما                     على قدود الغصون 
       
                                وللنسيم مجال
                                والروض فيه اختيال      
                                 مدّت عليه ظلال

        والزهر شقّ كماما                     وجداّ بتلك اللحون

                          أما ترى الطير صاحا
                           والصبح في الأفق لاحا
                           والزهر في الروض فاحا

       والبرق ساق الغماما                 تبكي بدمع هتون  )

 فنجد  انه يتكون  كما يلي :

1. المطلع:   اصطلاح يطلق على مطلع الموشح الذي يتكون عادة من شطر أو شطرين أو أربعة أشطر وهو هنا في موشح ابن مهلهل يتكون من قسمين أو شطرين أو غصنين:            
 
         النهر سلّ حساما                     على قدود الغصون

      وقد تختلف قافية الغصنين كما هو الحال في المثال السابق،وقد تتفق كما هو الحال في إحدى موشحات ابن زهر:

فتق  المسك     بكافور  الصباح
و وشت بالروض أعراف الرياح

2. الدور: وهو مجموعة الأبيات التي تلي المطلع، ، ويتكون الدور من مجموعة من الأقسمة لا تقل عن ثلاثة وربما تزيد عن ثلاثة بشرط أن يتكرر بنفس العدد في بقية الموشح وأن يكون من وزن المطلع ولكن بقافية مختلفة عن قافيته وتلتزم في أشطر الدور الواحد. والدور في الموشح موضع التمثيل هو:

                وللنسيم مجال
                والروض فيه اختيال
                مدت عليه ظلال

3. السمط: هو كل شطر من أشطر الدور،وقد يكون السمط مكوناً من فقرة واحدة كما  في هذا الموشح  ،وربما يتألف من فقرتين.

4. القفل: هو مايلي الدور مباشرة ويسمّى أيضاً مركزاً، وهو شبيه بالمطلع في الموشح التام من جميع النواحي أي أنه شبيهه في القوافي وعدد الأغصان وليس الموشح مشروط بعدد ثابت من الأقفال. والقفل هنا  هو:
                والزهر شق كماما                وجداً بتلك اللحون

5. البيت:وهو في الموشحة غيره في القصيدة ، فالبيت في القصيدة معروف أما في الموشحة فيتكون البيت من الدور مضافاً إليه القفل الذي يليه وعلى ذلك فالبيت في موشحنا هو:
                      وللنسيم مجال  
                      والروض فيه اختيال
                       مُدّت عليه ظلال
                   والزهر شق كماما           وجداً بتلك اللحون

6. الغصن: هو كل شطر من أشطر المطلع أو القفل أو الخرجة وتتساوى الأغصان عدداً وترتيباً وقافية في كل الموشحة وقلّما يشذ الوشاح عن هذه القاعدة، وأقل عدد للأغصان في مطلع أية موشحة ـ وبالتالي في الأقفال والخرجة ـ اثنان، وكما سبق القول يجوز أن تتفق قافية الغصنين ويجوز أن تختلف، على أنه من المألوف أن تتكون أقفال الموشحة من أربعة أغصان مثل موشح لسان الدين:


         جادك الغيث إذا الغيث همى   
                                     يـازمــان الـوصـــل بالأنـدلــس 
       
         لم يـكـــن وصــلك إلا حـــلـــماً
                                         في الكرى أو خلسة المختلس

7. الخرجة: هي آخر قفل في الموشح قفل بكل شروطه، تقع في آخر الموشح و تشكل مع مايسبقها من أقفال أجزاء أساسية في بناء الموشح و لولا الأقفال والخرجة لا يمكن أن تسمى المنظومة موشحاً.

والخرجة خرجتان :
    خرجة معربة وهي التي تكون فصيحة اللفظ بعيدة عن العامية.
و خرجة رجلية أي عامية أو أعجمية  الألفاظ  وهي  المفضلة  او المستحسنة.

      استخدم الوشاحون كل موضوعات الشعر المألوفة ميادين لتواشيحهم وقد وجدت موشحات في جميع الأنواع  فاول هذه الموشحات هي الموشحات الغزلية ثم الخمرية ثم موشحات في وصف الطبيعة وكثيراً ما كانت تتشابك هذه الموضوعات وتشترك كلها في موشحة واحدة فمن أشهر الوشاحين الغزلين (الأعمى التطيلي ) فوموشحته هذه تعتبر مثلاً أعلى لفن الموشحات في الأندلس  يقول :

            سافر عن  بدر
          ضاق عنه الزمان         وحواه صدري

          آه مــــــــما أجـــد       
           شفني ما  أجـد

          قــــام بي وقـــــعـد                  
          باطــش متئــــد

          كــلمـــــا قلت قد     قال لي أين قد

          وانـثنى خوط بان      ذا مهـز نضير
         عـــابثــــتــــه يــــدان    للـصبا والقطر


اما  الموشح الخمري  فلا تختلف مواضيعه عن معانيها في القصيدة الشعرية في الخمر  واشهر شعراء الموشحات الخمرية  ابن بقي القرطبي الاندلسي  فيقول :

أدر لـــنــا أكــــــــواب
ينسى به الوجـد
واستصحب الجلاس
كما اقتضى العهد

دن بالهــــوى شرعاً
ما عشت ياصــــاح
ونـــــزّه الســــمـــعـــا
عن منطق اللاحي
والحـــــكم أن يدعى
إليـــك بـــــالــــراح

أنامــــل العــــنـــــاب
ونقلك الورد
حفا بصــدغي آس
يلويهــــما الخد

   ويعجبني هذا الموشح الرائع لابن المعتز الشاعر العباسي في المشرق والذي  كان المغنون  يتغنون  به  الى وقت قريب .


ياحلو  يااسمر      غنى بك  السمر
رقوا ورق الهوى    في كل ما صوروا

---------------------

ما الشعر ماسحره    ما الخمر ماالسكر
يندى على ثغرك      من انفاسك العنبر

--------------------------

والليل يغفو على        شعرك او يقمر
انت  نعيم الصبا       والامل   الاخضر
ما لهوانا  الذي        اورق      لا يثمر

-------------------------

قد كان من  امرنا    ماكان هل يذكر
نعصر من ر وحنا    اطيب ما  يعصر

----------------------------

نوحي الى الليل     ما يبهج او يسكر
نبنيه   عشا  لنا       ياحلو يا  ا سمر

------------------------------------


         اما  الموشح الخمري  فلا تختلف مواضيعه عن معانيها في القصيدة الشعرية في الخمر  واشهر شعراء الموشحات الخمرية  ابن بقي القرطبي الاندلسي  فيقول :

أدر لـــنــا أكــــــــواب
ينسى به الوجـد
واستصحب الجلاس
كما اقتضى العهد

دن بالهــــوى شرعاً
ما عشت ياصــــاح
ونـــــزّه الســــمـــعـــا
عن منطق اللاحي
والحـــــكم أن يدعى
إليـــك بـــــالــــراح

أنامــــل العــــنـــــاب
ونقلك الورد
حفا بصــدغي آس
يلويهــــما الخد


         اما  موشحات وصف الطبيعة  الاندلسية الرائعة  الخلابة  فمن افضلها  موشح  الوزير  الشاعر  ابي جعفر  احمد بن سعيد  وفيها وصف الروض ووصف النهر الذي خلع عليه الوزير الوشاح الألوان البهيجة حين سلّط شمس الأصيل على ماء النهر  المفضض وجعل منه سيفاً مصقولاً يضحك من الزهر في الأكمام، ويبكي الغمام، وينطق ورق الحمام، ويصف أيضاً جمال الحور وفتنة الروض فتوحي بالشراب فيمد الشاعر أو الوشاح الأندلسي بالغزل فيقول فيها :

          ذهبت شمس الأصيل         
          فضة النهر
                             أي نهر كالمدامة
                             صيّر الظل فدامه
                             نسجته الريح لامه
                             وثنت للغصن لامه
          فهو كالعضب الصقيل         
       حف بالشـفـــر
                             مضحكاً ثغر الكمام
                             مبكــياً جفن الغمام
                             منطقاً وِرق الحمام
                             داعــــياً إلى المدام
          فلــــهذا بالـــقـــبــــول          
         خط كالسطـــر
                             وعد الحب فـــأخــــلــــف
                             واشتهى المطل وسوّف
                             ورســـــــولي قد تعرّف
                             منـــــــه بما أدري فحرف
          بالله قل يارسولي                  
          لش يغب بدري

         كما ان  هناك موشحات ظهرت في المديح والفخر  والهجاء والرثاء  والتصوف والحكمة و كثير من  الاغراض  اتجاوز عن ذكرها  خشية الاطالة .

      فالموشح والزجل قد ظهرا في وقت واحد ونرجح أن لهما أصلاً مشتركاً في البيئة الأندلسية منذ عهودها  الاولية  فالزَّجل هو الموشَّح المنظوم باللغة العاميَّة والزجل  فن من فنون الشعر العربي  ظهر في الاندلس فهو وليد البيئة الأندلسية  ثم تسرب او خرج إلى البيئات العربية الأخرى و انتشر فيها ويعتبر الشاعر  أبو بكر بن قزمان الذي عاش في عصر المرابطين بالأندلس هو أول من أبدع في فن الزجل  الا انه لم يكن أول من قال فيه ، بل قيلت  الأزجال  قبله بالأندلس   فهناك عدد من شعراء الأندلس من تقدموا  أبا بكر ابن قزمان  في القول فيه  و لكن هؤلاء الشعراء لم يبلغوا ما بلغه ابن قزمان  فيه .

        فالزجل نشأ  أصلا في بيئة  أندلسية  ثم انطلق  منها  إلى بيئات عربية أخرى لذا فقيمته  الحقيقية تكمن في ما استمده من واقع الحياة الشعبية العامة متمثلا في الجديد من معانيهم و حكمهم و أمثالهم ، و مبتكراتهم وتشبيهاتهم و غيرها من أنواع مجاز الكلام  و فيما شاع من مألوف ألفاظهم و صيغهم  العامية ،فهو  يمثل  تصوير لحياتهم العامة  بافراحها  واتراحها  وبجدّها و هزلها و همومها  وعلى العموم  فهو يعد فن من فنون  الادب  الشعبي .

        والاصل  في الزجل انه درجة معينة  من درجات شدة الصوت  وهي الدرجة الجهرية  ذات الجلبة والاصداء  مثل صوت  الرعد  في السحاب او صوت  الاحجار  والحديد وكل جماد ذي صوت  ثم تغيرت  فاصبحت تعني اللعب والجلبة والصياح  ثم توسع  ليشمل اصوات المغنين  والمطربين .ومعنى الصوت العالي المُنَغَّم  و كلمة زجَّالة ما زالت تُطلق  في كثير من المناطق العربية  على جماعة الشباب الذين يجتمعون في مكان بعيد ليؤدُّوا الرقص  والغناء الصاخب بمصاحبة آلاتهم الموسيقية . واصبحت كلمة زجل في الدوائر الأدبية والغنائية مُصطلحًا يدل على شكل من أشكال النظم العربي .

       وينقسم الزجل  الى قسمين  الاول  زجل العامة  وهم عامة الناس  ويمثل الاغنية الشعبية المحلية  وتنبع تلقائيا لديهم  من وحدة حدث معـين او  حالة  يتغنى بها المرء  وفتشيع ويرددها الاخرون افرادا او جماعات   او  قد تحدث  خلال  تجرية شخصية  او من خلال حدث عام  فهو بمثابة الاغنية الشعبية الرائعة والاكثر شيوعا وغنائية .

          اما  الزجل الاخر  فهو زجل  الشعراء  المعربين  فيبدو أنه جاء بعد نشأة  زجل العامة ، و لعل  الشعراء الذين  حاولوا اداء هذا النوع من الزجل قبل عصر ابن قزمان كانوا مدفوعين إليه بالرغبة في أن تنتشر أزجالهم المصطنعة بين الطبقات المثقفة كنوع من الطرافة أو بالرغبة في أن يعرف لدى العامة معرفتهم لدى الخاصة ، و ذلك بوضع أزجال لهم يتغنون بها و لكن هؤلاء الشعراء المعربين ممن اصطنعوا الزجل اصطناعا لم يستطيعوا في مراحله الأولى أن يتخلصوا فيه من الإعراب،  و هذا ما عابه عليهم ابن قزمان حين قال، أنهم يأتون بالإعراب ، و هو أقبح ما يكون في الزجل  وقد شهد ابن قزمان للشيخ  اخطل بن نماره  واعتبره شيخ الزجالين  بسبب  سهولة زجله وسلاسة طبعه و إشراق معانيه، و ومقدرته  على  التصرف بأقسام الزجل  و قوافيه  افضل من   غيره .

         والزجل في تطوره يمثل الأغنية الشعبية التي تأثرت إلى حدّ ما ببعض أشكال الموشحات  وقد شهد الزجل في  القرن السادس  أي نهاية المرابطين في الأندلس  طفرة نوعية  وانتشارا واسعا حيث كان بعض ملوك المرابطين لا يتقنون اللغة العربية  وانعكست  هذه الحالة  على  شعراء القصائد و الموشحات  حيث لم يلقوا تشجيعا من هؤلاء  الملوك والامراء فاشتهر الزجل في هذا القرن  الا انه لايغيب عن بالنا ان الضعف والوهن اخذ ينخر  في هذا المجتمع العربي وبدات تتساقط مدن الاندلس  بعد هذا القرن  بيد الاسبان واحدة بعد اخرى .

       اما  موضوات الزجل فهي نفسها  اغراض  اوفنون  الموشحات الاندلسية  مثل  الغزل  والمدح والخمرة ووصف الطبيعة ، و المجون     و التصوف و غير ذلك من فنون الشعر التقليدية المعروفة

        وبنية  الزجل  ياتي  بأربعة  مصاريع، يلتزم  الرَّابع  منها رويًّا واحدًا  في القصيدة،  وأمَّا  الثَّلاثة  فتكون على قافية واحدة،
 وتسمَّى ( القراديات )  ومن الزجل هذه المقطوعة :

              فلا  بثقهم ينسد        ولا  نهرهم يجري
                خلو ا منا زلهم      وساروا مع  الفجر


         ولاتختلف  الفنون الشعرية او اغراضها في  بلاد الاندلس عن مثيلاتها في  المشرق العربي  او مغربه في شمال افريقيا الا قليلا وحسب متطلبات الموقع  والزمن  المعاش   وفي كل انواع الشعر  كالشعر التقليدي  او الموشح او الزجل  ومن اشهر  الفنون الشعرية الاندلسية هو فن  المدح  حيث انتقل مع العرب  الى  تلك البلاد   فقد تمجد الشعراء العرب في الاندلس  بانفسهم وانسابهم  وبالاخص عندما اشتدت  المنازعة  بين القبائل العدنانية والقحطانية في المشرق  وانتقال هذه المنازعة الى الاندلس وانشغال الناس بها في هذا البلد ايضا . ومن اشعر ما قيل   في المدْح   ما قاله الشاعر لسان الدين بن الخطيب في مدح  المعتمد بن عباد  في موشح  نادر  مطلعه :

         جَادَكَ الغَيْثُ إِذَا الغَيْثُ هَمَى     
                                   يَا  زَمَانَ   الوَصْلِ   بِالأَنْدَلُسِ

       لَمْ  يَكُنْ   وَصْلُكَ  إِلاَّ   حُلُمًا     
                              فِي الكَرَى أَوْ خِلْسَةَ المُخْتَلِسِ

       وكذلك رائيَّة أبي بكر بن عمَّار في مدح المعتمد بن عباد  حيثُ استهلَّها بمدخل رائع  لوصف الطبيعة الاندلسية   يقول فيه:

أَدِرِ  الزُّجَاجَةَ  فَالنَّسِيمُ   قَدِ   انْبَرَى   
                                             وَالنَّجْمُ قَدْ صَرَفَ العِنَانَ عَنِ السُّرَى

 وَالصُّبْحُ   قَدْ   أَهْدَى   لَنَا   كَافُورَهُ    
                                           لَمَّا    اسْتَرَدَّ    اللَّيْلُ    مِنَّا    العَنْبَرَا

ثم ينتقل بعد وصْف الطبيعة إلى مدح الامير المعتمد قائلاً:

أَثْمَرْتَ رُمْحَكَ مِنْ رُؤُوسِ مُلُوكَهُمْ  
                                                لَمَّا  رَأَيْتَ  الغُصْنَ   يُعْشَقُ   مُثْمِرَا

وَصَبَغْتَ دِرْعَكَ مِنْ دِمَاءِ  مُلُوكِهِمْ  
                                                  لَمَّا  رَأَيْتَ  الحُسْنَ  يُلْبَسُ   أَحْمَرَا

وَإِلَيْكَهَا  كَالرَّوْضِ   زَارَتْهُ   الصَّبَا  
                                                وَحَنَا   عَلَيْهِ   الطَّلُّ    حَتَّى    نَوَّرَا

            اما  الهجاء  فلَم تكُن  له سوق رائجة في بلاد الأندلس ولا سيما الهجاء السياسي وذلِك لقلَّة الأحزاب السياسيَّة وعدم وجود الشعوبية وقد تميز عند بعض شُعَراء الأندلس بالتطرُّف والقسْوة،فهذا ابن حزمون مثلاً حين هجا نفسَه  هجاها بقسوة  لامثيل لها ويذكرني بهجاء الحطيئة لنفسه ويقول في ذلك :    

تَأَمَّلْتُ  فِي  المِرْآةِ  وَجْهِي   فَخِلْتُهُ      
                                    كَوَجْهِ  عَجُوزٍ قَدْ  أَشَارَتْ  إِلَى اللَّهْوِ
 إِذَا شِئْتَ أَنْ  تَهْجُو  تَأَمَّلْ  خَلِيقَتِي     
                                     فَإِنَّ  بِهَا   مَا  قَدْ  أَرَدْتَ  مِنَ  الهَجْوِ

      والغزل  كان من اهم الفنون الشعرية التي توسعت في الاندلس  وقال فيه الشعراء  الكثير الكثير من الشعر  وكان  يؤثر على الشعراء   الطبيعة الجميلة  والحياة الناعمة  وغالبا ما يتداخل الغزل بوصف الطبيعة  كقول الشاعر  ابي الربيع الموحدى:

      لِرَكْبٍ     أَدْلَجُوا      بِسُحَيْرَةٍ    
                                                     قِفُوا سَاعَةً حَتَّى  أَزُورَ  رِكَابَهَا
       وَأَمْلأَ عَيْنِي مِنْ مَحَاسِنِ وَجْهِهَا    
                                                     وَأَشْكُو إِلَيْهَا إِنْ أَطَالَتْ  عِتَابَهاَ


     و يمتاز  الغزل الاندلسي  برقة الاسلوب  وجمال المعنى وقد انشد  او اشعر  فيه اغلب  بل  كل الشعراء العرب  في الاندلس  وتفننوا  فيه  وكانت المرأة صورة من محاسن الطبيعة، والطبيعة تجد في المرأة ظلها وجمالها، ولذا كانت الحبيبة روضاً وجنةً وشمساً، وهكذا كانت العلاقة شديدة بين جمال المرأة وبين  جمال  الطبيعة فلا تُذكر المرأة إلا وتُذكر الطبيعة  في وصف الحبيب  ووصف  لوعات الشعراء  وهواهم اليه 
ومن شعر ابن زيدون في الغزل مخاطبا حبيبته  ولادة ابنة الخليفة المستكفي  يقول :

  اني ذكرتك بالزهراء  مشتاقا
                                 والافق طلق  ووجه الارض قد را قا

 يوم  كايام لذات  لنا انصرمت
                                بتنا لها  حين  نام    الد هر    سراقا 

        اما الرثاء فقد قلد شعراء الاندلس شعراء المشرق فيه  وتفجعوا على الميت  ووصفوا المصيبة  الواقعة  وعددوا مناقب المرثي  ومن  ذلك قول الشاعر  ابن حزمون  في رثاء  ( ابي الحملات )  قائد الاعنة  في مدينة ( بلنسية )  وقد قتله نصارى ا لاسبان :
   يَا عَيْنُ بَكِّي السِّرَاجْ الأَزْهَرا ...   النَّيِّرَا  اللامِعْ
   وَكَانَ   نِعْمَ  الرِّتَاجْ  فكُسِّرَا ... كَيْ تُنْثَرَا مَدامِعْ

   وقد  تميز الرثاء  بشدة لوعته وصدق العاطفة فيه ومنه قول الشاعر الحصري في رثاء ابيه:

 ارى نير الايام   بعد   ما   اظلما
                                           وبنيان مجدي  يوم  مت  تهدما

وجسمي الذي ابلاه فقدك  ان  اكن
                                             رحلت  به فالقلب  عندك خيما

سقى الله  غيثا  من تعمد  وقفة
                                              بقبرك  ما استسقى له وترجما

وقال سلام  والثواب  جزا ء من
                                              أ لم  على  قبر الغريب    فسلما

          كما وجد نوع اخر من الرثاء  هو رثاء الممالك والمدن  الذَّاهِبة، فكان أكثر روْعة من رثاء الشُّعراء في المشرق  فقد هالَ الشعراء  ان يَرَوا ديارَهم تسقط  بلدة بعد أُخْرى في أيدي الأسبان فبكَوْها بكاء الثَّكالى وتفجعوا عليها تفجع من فقد اولاده ومن احبهم   ومن أشهر ما قيل في هذا الضَّرب من الرثاء ( راجع مقالتي  رثاء الاندلس ) قصيدةُ أبي البقاء الرندي  التي يرْثِي فيها الأندلس بأسرها، ومطلعها:

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا  مَا  تَمَّ  نُقْصَانُ   
     فَلا يُغَرَّ  بِطِيبِ  العَيْشِ  إِنْسَانُ
  ومنها هذه الابيات  يقول :
دهـى الـجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له
                                                        هـوى لـه أُحـدٌ وانـهدْ ثهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ
                                                       حـتى خَـلت مـنه أقطارٌ وبُلدانُ
فـاسأل(بلنسيةً) ما شأنُ(مُرسيةً)
                                                      وأيـنَ(شـاطبةٌ) أمْ أيـنَ (جَيَّانُ)
وأيـن (قُـرطبة)ٌ دارُ الـعلوم فكم
                                                     مـن عـالمٍ قـد سما فيها له شانُ
وأين (حْمص)ُ وما تحويه من نزهٍ
                                                    ونـهرهُا الـعَذبُ فـياضٌ وملآنُ
قـواعدٌ كـنَّ أركـانَ الـبلاد فما
                                                  عـسى الـبقاءُ إذا لـم تبقَ أركانُ

          اما  الوصف وما ادراك  ما الوصف في بلاد الاندلس  فقد توسع شعراء العربية في الاندلس  فيه وتاثروا بطبيعة البلاد الخصبة الخضراء الجميلة الموارد .. ومناظرها الفاتنة الساحرة بين الجبال العالية والوديان الفارهة  الغناء الوارفة الظلال روعة وجمالا تلك التي تفتح النفوس لتتيه الارواح  سادرة في ظلالها و لتغني القلوب فتطرب الافئدة وتغني لتشنف الاذان بالحانها  وتحدق العيون  بروعتها  بسناء ازاهيرها  فتطيرالقلوب فيها  كالفراشات  الملونة  فتمتلىء  بنور الحب  واشراق  الزهر وعبق الشذى وخفة النسيم  وتفننوا في الوصف و تعلّق الشاعر الأندلسي ببيئته الطبيعية وهيامه بها  هياماً  مبالغا ً بلغ حدّ الحلول، إذ إن الطبيعة  شكّلت حضوراً في معظم إبداعاته الفنيّة حتى تشظّى معجمها في مختلف الفنون وبلغ هذا التمازح بين الشاعر والطبيعة مرتبة  التشخيص   ويعد وصف الطبيعة الا ندلسية من جيد الوصوف الشعرية في اللغة العربية وروعتها
    منها قول الشاعر ابن خفاجة يصف روضة :-

    في روضة جنح الدجى  ظل بها
                                            وتجسمت  نو را  بها الانوا ر

   قام الغناء بها وقد نضح الندى
                                         وجه  الثرى  واسيتيقظ   النوا ر

  والماء في حلي الحباب  مقلد
                                      زرت  عليه   جيوبها    الاشجا  ر


وصقـيلة الأنوارِ تلـوي عِطـفَها         
                                                   ريحٌ  تلفّ  فروعـها  معـطار

عاطـى بها الصهباءَ أحوى أحورٌ      
                                                سَحّابُ  أذيال  السّـُرى   سحّار

والنَّورُ عِقدٌ والغصـونُ سـوالفٌ      
                                                والجذعُ   زَندٌ  والخـليج  سوار

بحديـقة مثـل اللَّمـى ظِلـاَّ بـها         
                                                وتطـلعت   شَنَبا  بها   الأنـوار

رقص القضيبُ بها وقد شرِبَ الثرى  
                                                  وشـدا   الحمامُ  وصَفَّق التيار

غَنّاء ألحَـفَ عِطفَـها الوَرَقُ النّدي    
                                                  والتـفّ  في  جَنباتها  النـوّارُ

فَتطـلّعت في كل مَـوِقع لحـظةٍ    
                                               من كل غُصـنٍ  صَفحةٌ  وعِذارُ

            وهناك اغراض اخرى غير هذه الاغراض اذ قال الشعراء في  الخمرة كثيرا  و في الزهد  وفي نظم الملاحم  والاحداث  والقصص  وفي  كل ما وقعت عليه اعين الشعراء  وهاموا به في هذه الارض ذات الطبيعة الخصبة ذات الرياض الرائعة التي لم ير العرب  اجمل منها  في بلادهم عامة



      ********************************************










ا بن زيدون المخزومي

امير الشعراء الاندلسيين



         هو ابو الوليد  احمد  بن عبد الله بن احمد بن غالب  بن زيدون  المخزومي .

      ولد في جانب الرصافة من  مدينة  قرطبة بتاريخ  الاول من رجب سنة\ 394 هجرية \ الخامس من ابريل (نيسان)  سنة 1003 ميلادية  وكانت قرطبة انذاك عاصمة البلاد  ومنارة ا لعلم والادب والثقافة . نشأ في مدينة الرصافة وهي جزء من قرطبة ومجاورة لها وقد بناها عبد الرحمن الداخل  عندما دخل الاندلس وحكمها  وتعلم علومه الأولى بها

         مات والده وهو فتى صغير فكفله جده وتولى تربيته وأكمل تعليمه في قرطبة فدرس الشعر والادب العربي حتى برع فيه وتمرس عليه  وهو من أسرة من فقهاء قرطبة من بني مخزوم ، أبوه فقيه من بني مخزوم القرشية ، وجده لأمه صاحب الأحكام الوزير أبو بكر محمد ،وهو من بيت حسب ونسب  .كان والده ذا جاه عريض ومال وضياع .. وله المشورة المحترمة العالية  في قرطبة وتولى جده لأمه القضاء بمدينة  
( سالم) ثم أحكام الشرطة والسوق في قرطبة  . تعلَّم ابن زيدون في جامعة قرطبة تلك التي كانت أهم جامعات الأندلس يَفِدُ إليها طلاب العلم من الممالك الإسلامية والنصرانية على السواء... ولمع  بين أقرانه كشاعر وكاتب .. وكان يقول الشعر بداية تعرُّفه بولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي الضعيف المعروف بالتخلف والركاكة  الذي يقول فيه  ابو حيان التوحيدي ( كان مشتهرًا بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عاهر الخلوة) .                                                   .                                                                        

        احب  ابن زيدون الشاعر ة والاديبة  ولادة ابنة الخليفة المستكفي   التي كانت شاعرة اديبة ,  تعقد الندوات  والمجالس الادبية والشعرية في بيتها  وبادلته حبا  بحب  وقد انشد في  حبها الشعر الكثير شعرا فياضا عاطفة وحنانا  وشوقا  ولوعة  وولها .  الامرالذي جعلنا نتغنى في شعره الى وقتنا هذا  وسيبقى خالدا  للاجيال  بعدنا  حبا  صادقا
  فراح  يتقرب  منها  حتى نال منزلة  في  قلبها فبادلته  الحب
 وكتبت له تقول :-

ترقب إذا جـــــن الظـــلام زيارتي
                                         فإني رأيت الليــل أكتــم للســر

وبي منك ما لو كان للبدر ما بدا
                                      وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر


      وتواصلت لقا آتهما حتى  دخل الوشاة بينهما و فرقت بينهما الأيام ففاض الوجد والحنين بعشيقته فكتبت إليه تقول:

ألا  هــل لنا من بعـد هذا الــتــفرق
                                  سبـــيل فيشكو كل صب بما لقي

وقد كنت أوقاتا لتزاور في الشتا
                              أبـيـت على جمر من الشوق المحرق

تـمـر الـلــيالي لاأرى البين ينقضي
                              ولا الـصبـــر من رق التشوق معتقي

سقـا الــلـه أرضا قد غدت لك منزلا
                                بـكل سـكـون هاطــل الـوبـل مـعدق


          ولما علمت ولادة  بإن حبيبها قد تولع  بغيرها او هكذا صوره لها الوشاة والحاقدون عليهما  .مالت عنه  كل الميل فأحبت الوزير ابا عامر ابن عبدوس  فندم ابن زيدون وراح يتوسل  من غير جدوى وينظم الشعر مهددا الوزير  ابا عامر  شاكيا إلى ولادة  تباريح الهوى ، وكتب  ابن زيدون إلى الوزير  رسالته المعروفة  بالرسالة الهزلية سخر فيها منه على لسان حبيبته ولادة ، فلم يلبث الوزير أن عمل على سجن الشاعرابن زيدون ، فتم سجنه . ولما طال سجنه راح ابن  زيدون في سجنه يكتب الشعر مسترحما ،و كتب إلى أبي حزم رسالته المعروفة  بالرسالة الجدية مستعطفا اياه لعله يخرجه من سجنه  ولكن لم يجد اذنا تصغي ولا قلبا يرحم قلبه  فصمم على الهرب ، ففر من السجن في  ليلة عيد  الأضحى المبارك وظل متخفيا عن الانظار حتى عفا عنه ابو حزم  فبعث إلى ولادة  بقصيدته  المشهورة بالنونية  والتي  تعتبر من روائع الشعر العربي  وعيونه في الادب  و التي من أجلها  كتبت عنه وجمعت مااستطعت  جمعه من عدة مؤلفات والتي يقول  في مطلعها:-

أضحى التنائي بديلا من تدانينا
                                             وناب عن طيب لقيانا  تجافينا

      الغزل عند ابن زيدون حاجة في النفس يلبي القلب  نداءها ، وشوق جامح يسير في ركابه ،وثورة في الفؤاد  يندفع  في  تيارها، فهو رجل المرأة الغاوية  يهواها إلى حد الجنون والوله ويريدها  ابدا  طوع هواه ، ويوجه  نحوها جميع  ذاته وقواه ، في ترف أندلسي ، وجماح نواسي ، وقد عانى من لوعة  الحب الوانا من  الألم والشوق العظيم  ، وقاسى في سبيل حبها  أمرّ العذاب ، فعرفها رفيقة حياة، ولقي في أس هواها الف حرارة ومرارة ، فراح يسكب نفسه حسرات ، ويعصرلباب  قلبه ويرسله تأ وّهات  وزفرات ، وإذا  قصائد ه  مزيج  من  شوق ، وذكرى , وألم ، وأمل وإذا غزله حافل بالاستعطاف والاسترحام، حافل  بالمناجيات الحرّى ، والنداءات السكرى ، وإذا الأقوال  منثورة مع كل نسيم ، مرددة مع كل صدى ، وإذا  كل  كلمة  فيها  رسالة حبّ وغرام ، وكل لفظة لوعة واطلاقة  سهام لاحظ  قوله :                                                

إليكِ منَ الأنـــــــــامِ غدا ارتياحـــــي
وأنتِ على الزّمانِ مدى اقتراحـــــــي

وما اعترضتْ همــــومُ النّفــــــسِ إلاّ
وَمِنْ ذُكْرَاكِ رَيْحانــــــي وَرَاحـــــــي

فديْتُكِ إنّ صبرِي عنـــكِ صبـــــــرِي
لدى عطشِي على المـــــاء القـــــراحِ

وَلي أملٌ لَوِ الوَاشُــــــونَ كَفُّــــــــــوا
لأطْلَعَ غَرْسُـــــــهُ ثَمَرَ النّجَــــــــــاحِ

وأعجبُ كيــــــــفَ يغلبُنــــــــي عدوٌّ
رضَاكِ عليهِ منْ أمضَــــــــى سلاحِ !

وَلمَّا أنْ جَلَتْكِ لـــيَ اخْتِلاســــــــــــاً
أكُــــــفُّ الدّهْرِ للحَيْــــنِ المُتـــــــَاحِ

رأيْتُ الشّمسَ تطلعُ منْ نقــــــــــابٍ
وغصنَ البانِ يرفُلُ في وشـــــــــاحِ

فُؤادي مِن أسى ً بكِ غيرُ خـــــــــالٍ
وقلبي عن هوى ً لكِ غيرُ صـــــــاحِ

وأنْ تهدِي السّلامَ إلـــيَ غبّـــــــــــــاً
ولَوْ في بعضِ أنفــــاسِ الرّيـــــــــاحِ

      هكذا كان غزل ابن زيدون روحا متململا ، وكيانا تتقاذفها الامواج ، و كان  شعره   بحر من  العاطفة والوجدان ، يترقرق ترقرق الماء الزلال ، في  صفاء البلور ، ولين الأعشاب على ضفاف الغدران و الانهار، وفي عذوبة  تتماوج  على  اعطافها  كل  معاني  الموسيقى الساحرة التي  هي السحر  الحلال ، موسيقى تنام على أوتارها الدهور ويغفو  بين حناياها  النور والجمال  , و  كانت الفاظه بسهولة  تنمو في أجواء الطبيعة الزاهية ، فتمتزج  بها امتزاج الارواح بالارواح ، وإذا كل شيء في القصيدة حي نابض، وإذا كل شيء رونق وجمال، وكل شيء حلقة  نورانية  بين الذكرى والآمال . وفيها يقول:

إنّي ذكرْتُكِ بالزّهراء مشتــــــاقــــــــا
                                         والأفقُ طلقٌ ومرْأى الأرض قد راقَـــا

وَللنّسيمِ اعْتِلالٌ في أصـــــــــــــــــائِلِهِ
كأنهُ رَقّ لي فاعْتَلّ إشْفَـــــــــاقَـــــــــــا

والرّوضُ عن مائِه الفضّيّ مبتســــــمٌ
كما شقَقتَ عنِ اللَّبّـــــاتِ أطواقَــــــــا

يَـــوْمٌ كأيّامِ لَذّاتٍ لَنَـــــــــــا انصرَمــتْ
بتْنَا لها حينَ نـــــامَ الدّهرُ سرّاقَـــــــــا

نلهُو بما يستميــــلُ العـــينَ من زهـــــرٍ
جالَ النّدَى فيهِ حتى مالَ أعنـاقَـــــــــا

كَـــــأنّ أعْيُنَهُ إذْ عايَنَــــتْ أرَقـــــــــى
بَكَتْ لِما بي فجــالَ الدّمعُ رَقَرَاقَــــــــا

وردٌ تألّقَ فـــي ضــــاحي منـــــــابتِــهِ
فازْدادَ منهُ الضّحى في العينِ إشراقَـا

سرى ينافحُهُ نيـــــــــلوفرٌ عـــــــــبقٌ
وَسْنَانُ نَبّهَ مِنْهُ الصّـــبْحُ أحْـــدَاقَـــــا

كلٌّ يهيجُ لنَا ذكرَى تشـــــــــوّقِنـــــــَا
إليكِ لم يعدُ عنها الصّدرُ أن ضاقَــــــا

          فهو شاعر الاندلس وبلبلها   الغرّيد  كان شاعر العبقرية التي تعطي النفس من خلال الطبيعة التى تصف سناءها وشذاها  ،وتعصر القلب في كؤوس الحب التي ترتشفه خالصا  ، وتصعّد الزفرات والآمال أنغام  سحر وروعة ،وتعتصر اللغة لتستخرج منها كل ممكوناتها  الشعرية والموسيقية لتشدو الحانها الشجية وقد  ملكت على العرب ألبابهم في عصورهم  القديمة والحديثة .

       اما في حياته العامة ومناصبه :
     كان ابن زيدون من الصفوة المرموقة من شباب قرطبة ؛ ومن ثم كان من الطبيعيّ أن يشارك في مسيرة الأحداث التي تمر بها .وقد ساهم بدور رئيسي في إلغاء الخلافة الأموية بقرطبة ، و شارك في تأسيس حكومة جمهورية بزعامة  ( ابن جهور)   وإن كان لم يشارك في ذلك بالسيف والقتال فقد كان دوره  رئيسيا  في  توجيه السياسة  وتحريك الجماهير وذلك باعتباره شاعراً معروفا ً ذائع الصيت وأحد أعلام مدينة  ( قرطبة )  ومن أبرز أدبائها المعروفين ، فسخر جاهه وثراءه وبيانه في توجيه الرأي العام وتحريك الناس نحو الوجهة التي يريد.  

        حظي ابن زيدون بمنصب الوزارة في عهد ( ابن جهور )  واعتمد عليه الحاكم الجديد في سفارته بينه وبين الملوك المجاورين ، إلا أن هذا  لم  يشف طموح  ( ابن زيدون ) الذي كان ظلاً للحاكم اذ كان طموحا.  فاستغل اعداؤه  هذا الطموح  فأوغروا عليه صدر صديقه القديم ونجحوا في الوقيعة بينهما  حتى انتهت العلاقة بين الشاعر والأمير إلى مصيرها المحتوم .  يقول في قصيدته :                                             
  
وَيَــهـتـاجُ قَــصــرُ الـفـارِسِـيِّ صَـبـابَـةً
لِـقَـلـبِيَ لاتَــألـو زِنـــادَ الأَســـى قَــدحـا

وَلَــيـسَ ذَمـيـماً عَـهـدُ مَـجـلِسِ نـاصِـحٍ
فَـأَقـبَلَ فــي فَــرطِ الـوَلـوعِ بِــهِ نُـصحا

كَــأَنِّـيَ لَــم أَشـهَـد لَــدى عَـيـنِ شَـهـدَةٍ
نِــــزالَ عِــتــابٍ كـــانَ آخِـــرُهُ الـفَـتـحا

وَقــائِـعُ جـانـيـها الـتَـجَنّي فَــإِن مَـشـى
 سَـفـيـرُ خُــضـوعٍ بَـيـنَـنا أَكَّــدَ الـصُـلحا

         فقد  ترقى ابن زيدون  في الادارة  الى ان تمكن من ادارة الدولة سياسيا  واصبح مشرفا  على الديوان فيها فقد  تولى ابن زيدون الوزارة لأبي الوليد بن جهور صاحب قرطبة، وكان سفيره إلى أمراء الطوائف في الأندلس  ثم اتهمه ابن جهور بالميل إلى المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، فحبسه . وحاول ابن زيدون استعطاف ابن جهور برسائله  فلم  يعطف عليه. وفي عام \441 هـجرية \ 1050 ميلادية ، تمكن ابن زيدون من الهرب من سجنه  ولحق  ببلاط  المعتضد بالله .

       انتقل الى  مدينة  بلنسية  ثم الى الزهراء  ثم  استقر به  المقام  في مدينة اشبيلية  فتلقاه  اميرها   المعتضد بالله  بلقاء  حسن  فاكرمه  ونعمه  واستوزه  فولاّه وزارته، وفوض إليه أمر مملكته فأقام مبجّلاً مقرباً ولقب بذي الوزارتين واقر بقاءه في منصبه  ولما توفي  المعتضد بن  عباد وورثه ابنه  المعتمد بن عباد  امارة البلاد  اثبته المعتمد بن عباد في حكمه  ايضا ثم زادت مكانته وارتفعت في عهد المعتمد بن المعتضد   الشاعرالمعروف ، ودان له السرور وأصبحت حياته كلها أفراحا لا يشوبها سوى حساده في بلاط  المعتمد مثل ( ابن عمار) و (ابن مرتين)  اللذين كانا سببًا في هلاكه إذ ثارت العامة في أشبيلية على اليهود فاقترحا على المعتمد بن عباد  إرسال ابن زيدون لتهدئة الموقف، واضطر ابن زيدون لتنفيذ  أمر المعتمد  رغم  مرضه  وكبر سنه، فأجهده ذلك  وزاد المرض عليه فدهمه الموت وبقي في اشبيلية حتى وافاه الاجل.

    توفي الشاعر ابن زيدون  والزعيم السياسي ذو الوزارتين   في الخامس عشر من رجب سنة \ 463 هجرية  \ 1078ميلادية  عن عمر  يناهز الخامسة والسبعين عاما .

     يمتاز  شعره  بسلاسة النظم وعذوبته  وسهولة اللفظ  ورقة المعاني   وحسن الصناعة  الشعرية وبراعتها ويعتبر  متنبي البلاد الاندلسية لتماثل شعره  بشعرالمتنبي وتقليده اياه  وهو حقا  افضل شعراء  الاندلس واسماهم شعرا لذا يحق الينا ان نسميه  اميرا للشعراء الاندلسيين  وقد نظم في اغلب الاغراض الشعرية  وخاصة في الغزل  .

         ومن  قوله  في حب ولادة ابنة المستكفي  بعد ان هجرته  واحبت غيره . لكنه بقى  محبا لها شاكيا  شوقه حبه ولوعته اليها هذه الابيات من قصيدة تعد من عيون الشعر العربي  يقول فيها :-

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا
                                          وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا
                                          حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم
                                         حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا
                                          أنسًا  بقربهم قد عاد  يُبكينا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا
                                             بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا
                                        وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم
                                           رأيًا ولم  نتقلد  غيرَه  دينا
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد بنا،
                                                ولا أن تسروا كاشحًا فينا
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه
                                                وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا
                                             شوقًا  إليكم  ولا  جفت مآقينا
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا
                                                يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
حالت  لفقدكم  أيامنا   فَغَدَتْ
                                                  سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا
                                              وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية
                                                قطوفُها  فجنينا  منه ما شِينا
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما
                                                 كنتم لأرواحنا  إلا رياحينا
ا تحسبواؤ  نَأْيكم   عنا  يُغيِّرنا
                                              أن طالما غيَّر النأي المحبينا
والله ما طلبت  أهواؤنا  بدلاً
                                          منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به
                                        من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا
                                          إلفًا،   تذكره    أمسى     يُعنِّينا
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا
                                        من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا

فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً
                                     منه   ولم   يكن   غِبًّا   تقاضينا
ربيب  ملك  كأن  الله  أنشأه
                                             مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه
                                      مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
إذا تَأَوَّد  آدته   رفاهيَة   تُومُ
                                         العُقُود  وأَدْمَته  البُرى لِينا
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه
                                        بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته
                                       زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا
                                        وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا
                                    وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
ويا  حياةً  تَمَلَّيْنا   بزهرتها
                                    مُنًى  ضُرُوبًا   ولذَّاتٍ  أفانِينا
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته
                                    في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَة
                                       فقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ
                                          فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
يا جنةَ  الخلد  أُبدلنا  بسَلْسِلها
                                          والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
كأننا  لم نَبِت   والوصل  ثالثنا
                                       والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا
                                         حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ
                                          عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا
                                            مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
أمَّا هواكِ   فلم   نعدل   بمنهله
                                           شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه
                                             سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ
                                           لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعةً
                                            فينا  الشَّمُول  وغنَّانا  مُغَنِّينا
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا
                                           سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً
                                               فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا
                                               ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه
                                            بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
أَوْلِي وفاءً وإن لم   تَبْذُلِي صِلَةً
                                           فالطيفُ  يُقْنِعُنا  والذِّكْرُ  يَكْفِينا
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به
                                          بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما   بَقِيَتْ
                                          صَبَابةٌ منكِ     نُخْفِيها   فَتُخفينا







                          -------------------------



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق